بضده، وذلك مما يسقط حجج أهل الجبر الذين يحتجون بالقدر الكوني على إبطال الأمر الشرعي، إذ يقال لهم: إن للسعادة أسبابا وللشقاء أسبابا، فكما باشرتم أسباب الشقاوة المهلكة، باشروا، على حد التكليف الشرعي، أسباب السعادة المنجية، وفي كلا الحالين لن تخرجوا عن حد المشيئة الكونية النافذة، فما أطاع طائع ولا عصى عاص إلا بقدر كوني نافذ.
وذلك الحديث لمن تأمله: حامل على الفعل لا على الترك اتكالا على الكتاب الأول، إذ في ذلك إبطال لسنن الشرع، بل ولسنن الكون القاضية بتولد المسبَّب من سببه، فالطاعة سبب النجاة، وذلك مما توجه التكليف الشرعي بامتثاله، والمعصية سبب الهلاك، وذلك مما توجه التكليف الشرعي باجتنابه، وكلاهما كائن بقدر كوني نافذ، فيستجلب المسبَّب بمباشرة سببه، كما اطرد من السنة الكونية الجارية فذلك أمر جار في الديانات وفي العادات، فإن الشبع لا يحصل إلا بمباشرة سببه من تناول المطعوم، فكذلك النجاة لا تحصل إلا بمباشرة أسبابها، فمن رام النجاة بلا عمل، فهو على حد من رام الشبع بلا طعام، وذلك مما يلزم أهل الجبر، ويدل على فساد طريقتهم في هذا الباب، فالقدر الكوني لا يعارض القدر الشرعي، بل القدر الشرعي إذا كان فبالقدر الكوني، وإذا لم يكن فبالقدر الكوني أيضا، فالأحرى التزام القدر الشرعي لتتوافق الإرادتان: الشرعية والكونية في العبد، بخلاف من عارض تلك بتلك فلم يحظ إلا بموافقة القدر الكوني الذي يستوي فيه البر والفاجر.
والحديث التالي على حد هذا الحديث السابق:
"وفي الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل: أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: "نعم"، قيل له: ففيم يعمل العالمون؟ قال: (نعم، كل ميسر لما خلق له) ". اهـ
ص89، 90.
فذلك العلم الأول الذي لم يطلع الله، عز وجل، عليه أحدا، فلا يعلم المسطور في اللوح المحفوظ إلا الباري، عز وجل، ولذلك كان القول بأن جبريل عليه السلام قد أخذ القرآن من اللوح قولا على غير حد الصواب، وإن قال به أئمة أجلة كرام، فالقرآن قد تلقاه الروح الأمين من رب العالمين فمنه بدا بدو الوصف من موصوفه، فسمعه جبريل من الرب الجليل حروفا وكلمات وآيات نزل بها على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قرر المحققون من أهل السنة ذلك.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال أَبو الحسن بن عبيد الحافظ: سمعت أَبا عبد الله بن أَبي خيثمة يقول: سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول: انحدرت من سرَّ من رأَى إِلى بغداد في حاجة لي فبينما أَنا أَمشي في بعض الطريق إِذا بجمجمة قد نحرت فأَخذتها، فإِذا على الجبهة مكتوب: "شقي" والياءُ مكسورة إِلى خلف. وهؤلاءِ كلهم أَئمة حفاظ، ذكره الطبري في السنة". اهـ
ص89.
فلعل ذلك من آثار القلم الكوني ااذي يجري على الجنين في رحم أمه، بل قد ذكر بعض الفضلاء المعاصرين في معرض بيان أوجه الإعجاز العلمي في الكتاب العزيز في علم الأجنة أن خطوطا عجيبة الشكل قد شوهدت على جمجمة الجنين في مراحله الأولى، فلعلها، أيضا، من آثار تلك الكتابة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[16 - 10 - 2009, 05:54 م]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: "دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى جنازة غلام من الأَنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يدرك السوءَ ولم يعمله، قال: (أَو غير ذلك، إن الله تعالى خلق للجنة أَهلا، خلقهم لها وهم فى أصلاب آبائهم وخلق للنار أَهلا خلقهم لها وهم فى أَصلاب آبائهم) ". اهـ
ص90.
فذلك من القدر الكوني النافذ، فقد تقدم في الأزل نجاتهم، فهم من أهل الجنة، ولما يوجدوا، فإذا وجدوا يسر الله، عز وجل، بمقتضى حكمته، أسبابا يحصلون بها تلك المنزلة إجراء لسنن الكون وأحكام الشرع، فلا ينال مطلوب ديني أو دنيوي إلا ببذل أسبابه شرعية كانت أو كونية.
ويقول رحمه الله:
"وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أُبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو عاش لأَرهق أَبويه طغياناً وكفراً) ". اهـ
ص90.
¥