بَيْنِنَا}؟ قال تعالى مجيبا لهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. فتأمل هذا الجواب، تر في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر، من المحل الذي لا يصلح لغرسها، فلو غرست فيه لم تثمر، فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ". اهـ
"شرح الطحاوية"، ص435، 436.
فكذلك إلقاء النور والظلمة في الأزل: فإنه قد تقدم في العلم الأزلي المحيط صلاح محال ألقي النور عليها، وفساد محال حجب عنها، فاقتضت الحكمة الإلهية: هداية الأولين فضلا، وإضلال الآخرين عدلا، ثم ظهرت تلك المقدورات في عالم الشهادة بقدرته الكونية النافذة، فاجتمع فيها وصف الجلالا: القدرة، و: وصف الجمال: العلم والحكمة.
ومثله يقال في حديث:
"راشد بن سعد عن أبي عبد الرحمن السلمي أن أَبا قتادة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَأَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ ظهْرِهِ فَقَالَ: هَؤُلاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلا أُبَالِي، وَهَؤُلاءِ فِى النَّارِ وَلا أُبَالِي"، قال: قيل: على ما نعمل؟ قال: (عَلَى مَوَاقعِ الْقَدَر) ". اهـ
ص90.
فهؤلاء في الجنة لسبق العلم الأزلي فيهم بصلاح محالهم لقبول آثار الطاعات التي يتوسل بها إلى ابتغاء دار النعيم، فاقتضت الحكمة الإلهية تيسير أسباب الطاعة لهم فوقعت منهم في عالم الشهادة بإقدار الله، عز وجل، لهم على إيقاعها بإراداتهم التابعة لإرادته الكونية النافذة فذلك فضله، وفي المقابل: هؤلاء في النار لسبق العلم الأزلي فيهم بفساد محالهم فلا تقبل آثار الوحي النافعة، فاقتضت الحكمة الإلهية تيسير أسباب المعصية لهم فوقعت منهم في عالم الشهادة بإقدار الله، عز وجل، لهم على إيقاعها بإراداتهم التابعة لإرادته الكونية النافذة فذلك عدله، والخلق كما تقرر مرارا: بين فضل منه وعدل، فلا يظلم ربك أحدا.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وذكر أبو داود فى كتاب القدر عن عبد الله بن مسعود أَنه مر على رجل فقالوا: هذا هذا .. ونالوا منه، فقال عبد الله: أَرأَيتم لو قطعتم يده، كنتم تستطيعون أن تخلقوا له يداً؟ قالوا: لا. قال: فلو قطع رجله أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له رجلاً؟ قالوا: لا. قال: فلو قطع رأْسه، كنتم تستطيعون أن تخلقوا له رأَساً؟ قالوا: لا، قال: فكما لا تستطيعون أن تغيروا خلقه لا تستطيعون أَن تغيروا خُلقه، إِن النطفة إذا وقعت في الرحم بعث الله ملكاً فكتب أَجله وعمله ورزقه وشقي أَو سعيد". اهـ
ص90، 91.
وليس ذلك من الاحتجاج بالقدر الكوني على مخالفة الأمر الشرعي بالتخلق بما لا يليق من الأخلاق الردية، وإنما هو مما يتذرع به إلى الصبر في حق من ابتلي بمعاشرة أو معاملة من ذلك وصفه، والاحتجاج بالقدر الكوني النافذ في المصائب الكائنة مما يخفف وطأتها ويذهب حدتها، فإن الصبر والرضا إذا امتزجا بالمصيبة لان قوامها الغليظ، فتهون على النفس مكابدتها، وأي مصيبة أعظم من أن يبتلى المرء بعشير ذي أخلاق ردية؟!.
والأخلاق، وإن كان قدر منها يحصل بالاكتساب على حد حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه، مرفوعا: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ" إلا أن منشأها جبلي قد فطرت النفوس عليه حسنا كان أو قبيحا على وزان حديث أشج عبد القيس. وفيه: " «إن فيك لخلقين يحبهما الله». قلت: ما هما يا رسول الله؟ قال: «الحلم والحياء - أو الحلم والأناة». قلت: أقديما كانا في أو حديثا؟ قال: «بل قديم». قلت: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما". اهـ
وهذه رواية أبي يعلى الموصلي، رحمه الله، في مسنده.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 10 - 2009, 02:56 م]ـ
قال ابن القيم رحمه الله:
¥