تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإن كل ما هو آت قريب: وإن ظنه المبتلى بالنقمة، أو المغرور بالنعمة بعيدا، فإن كليهما إلى زوال، وإن طال الزمان، والمبتلى، إن كان على حد الصبر والرضا، أو الصبر إن لم يبلغ مرتبة الرضا، فأمره إلى عافية في الدنيا والآخرة، وإن طال زمن الابتلاء، فالشدة بتراء لا دوام لها، والمعافى، إن كان على حد الشكر، فأمره، أيضا، إلى عافية في الدنيا والآخرة، فهو بالنعمة الكونية مستمتع، ولأحكام نعمة الوحي الشرعية ممتثل، فيسوس نعمة الكون بنعمة الشرع: سياسة الأنبياء والصديقين، ومآل نعمته كمآل نقمة المبتلى: إلى الزوال، وإن طال الزمان، وله فيما ادخره الله، عز وجل، له في دار المقامة، إن وافاه الأجل على الطاعة، له فيه خير عزاء عما سيفقده من متاع الدنيا لا محالة، فتلك سنة كونية جارية على كل العباد: مؤمنهم وكافرهم. ومن دعائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ).

فأنت الحي على حد القصر الحقيقي بتعريف الجزأين، إن حمل وصف الحياة على الحياة الكاملة التي لا يعتريها نقص بعجز أو مرض أو هرم أو موت، وأنت الحي: على حد القصر الإضافي مبالغة في إثبات كمال حياته في مقابل نقصان حياة عباده وإن اشترك كلاهما في وصف الحياة الكلي، فذلك مما يصح وقوع الشركة فيه على حد التصور الذهني، فلا يلزم منه تشبيه لعدم وقوعه في الخارج المشهود، فلك كمال الحياة فرعا عن كمال الذات القدسية، وقد ذيل على حد الإطناب في بيان كمال تلك الحياة بنفي نقيضها في معرض بيان الفارق بينها وبين حياة المخلوقين الفانية، فلا يموت، جل وعلا، إذ الموت نقص مطلق لا يصح، بل يحال عقلا اتصافه به، فليس شيئا لتتعلق قدرة الرب، جل وعلا، به، وفي المقابلة على حد طباق السلب بين: "أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ": نفيا، و: "وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ": إيجابا، في المقابلة على ذلك الحد: مزيد بيان للفارق بين الخالق الأول الآخر والمخلوق العدمي الفاني.

والجن والإنس يموتون: فذلك عموم لا مخصص له، إن قيل بعدم دخول من خلقهم الله، عز وجل، من الحور والولدان في الجنان، في حد "الإنس"، فيكون العموم باعتبار المكلفين في دار الابتلاء فأولئك لا يدخل فيهم الحور والولدان بداهة، إذ الأولون: مبتلون بالتكليف، والآخرون: لا يتوجه إليهم خطابه فليست دارهم بدار ابتلاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وقال ابن وهب: أخبرنى يونس عن ابن شهاب أن عبد الرحمن ابن هنيدة حدثه أَن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَرَاد اللهُ أَنْ يَخْلُقَ النَّسَمَة قَالَ مَلَكُ الأَرْحَام تَعْرُّفاً: يَا رَبّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِى اللهُ أَمْرَهُ ثم يقول: يا رب أشقى أم سعيد؟ فيقضى الله أمره، ثُمَّ يَكْتُبُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَا هُوَ لاقٍ حَتَّى النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا) ".

فذلك القلم الكوني القاضي بأمر السعادة والشقاوة، وأمر العافية بالنعمة والنكبة بالنقمة، فقد قضي الأمر من الأزل، وإنما سطر الملك بين عينيه ما سطره القلم الأول في اللوح من قدر كل مكلف تفصيلا، وقد يقال بأن المكتوب على حد التعليق، فهو في صحف الملائكة معلق بالأسباب، وإن كان في اللوح المحفوظ مبرما واجب النفاذ، فيستدفع المكتوب في صحف الملائكة بالأسباب الشرعية، ليوافق ما سطر في اللوح المحفوظ من علم الرب الأزلي بمقادير عباده على حد الإجمال والتفصيل، فلا بد من بذل الأسباب على كل حال: فالسعيد بأسباب النجاة عامل، فهو لها ميسر، والشقي على الضد فهو: بأسباب الهلاك عامل، فهو لها ميسر، أيضا، ليظهر معلوم الرب، جل وعلا، الأزلي، في كليهما، فيصح تعلق الثواب والعقاب بهما، إذ لا يتعلقان إلا بأمر وجودي في عالم الشهادة لا عدمي في عالم الغيب، فبذل الأسباب المشروعة ذريعة إلى تحصيل الأنصبة المقدورة، فمن له نصيب في دار السعادة فإنه آخذ بالسنن الشرعية على حد الامتثال، فقد سهلت له، بمقتضى فضل الرب الرحيم، تبارك وتعالى، ومن له نصيب في دار الندامة فإنه معرض عن الأسباب الشرعية المنجية والغ في ضدها من المهلكات، فقد سهلت له، أيضا، بمقتضى عدل الرب الجليل عز وجل.

فكل ميسر لما خلق له، وكلٌ عامل بما قدر له، على حد الاختيار، فلا يكره الرب، عز وجل، عباده، بل يخلق فيهم الإرادات المختارة والأفعال التي تقع بها في عالم الشهادة، بمقتضى ما علمه أزلا، وكتبه في اللوح جزما، وشاءه وخلقه كونا، فإراداتهم خيرا أو شرا لا تخرج عن إرادته الكونية النافذة، وبتيسير من علم أزلا صلاحه إلى أسباب النجاة، ومن علم أزلا فساده إلى أسباب الهلاك، تظهر آثار حكمة الرب، جل وعلا، بجريان سنة التدافع بين الحزبين.

فهو الغني على حد الإطلاق، ومن لوازم الغنى: عدم الافتقار إلى ما بيد المظلوم أو المكره كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فتسهيل أسباب المعصية للعاصي جار على حد العدل، إذ ليست هدايته واجبة على الرب، جل وعلا، فلا واجب للعبيد عليه إلا ما أوجبه على نفسه بمقتضى فضله ومنته.

يقول ابن أبي العز رحمه الله:

"فإن قيل: فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له، ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم، عاد السؤال وكان منعهم منه ظلما، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون - قيل: لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالما، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقا لذلك الغير عليه، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه وأوجب على نفسه خلافه. وأما إذا منع غيره ما ليس بحق له، بل هو محض فضله ومنته عليه - لم يكن ظالما بمنعه، فمنع الحق ظلم، ومنع الفضل والإحسان عدل. وهو سبحانه العدل في منعه، كما هو المحسن المنان بعطائه". اهـ

"شرح العقيدة الطحاوية"، ص435.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير