تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلا يلزم من التصوير: اكتمال الخلق، بل التصوير نوع تقدير، كما قيل في تقدم خلق الأرواح على الأجساد، فإن من أهل العلم من رجح ذلك على حد الجزم، كابن حزم، رحمه الله، الذي قال بخلقها وجمعها في مستقر معلوم، فإذا شاء الرب، جل وعلا، خروج صاحبها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة خلق جسده في رحم أمه ثم أرسل الروح إليه بعد تمام مائة وعشرين يوما، واستدل لذلك بقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)، ومنهم من قال بأنه لا يلزم من ذلك الأخذ خلق الأرواح على حد الكمال، بل يكفي تصويرها ليؤخذ عليها الميثاق، وليس التصوير كالخلق الكامل، فلا تخلق الروح إلا مع الجسد إذا شاء الرب، جل وعلا، نفخها فيه.

وإلى طرف من ذلك أشار ابن أبي العز، رحمه الله، بقوله:

"وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْأَجْسَادِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ لَا تَدُلُّ عَلَى سَبْقِ الْأَرْوَاحِ الْأَجْسَادَ سَبْقًا مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا، وَغَايَتُهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ بَارِئَهَا وَفَاطِرَهَا سُبْحَانَهُ صَوَّرَ النَّسَمَةَ وَقَدَّرَ خَلْقَهَا وَأَجَلَهَا وَعَمَلَهَا، وَاسْتَخْرَجَ تِلْكَ الصُّوَرَ مِنْ مَادَّتِهَا، ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَيْهَا، وَقَدَّرَ خُرُوجَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا خُلِقَتْ خَلْقًا مُسْتَقِرًّا وَاسْتَمَرَّتْ مَوْجُودَةً نَاطِقَةً كُلُّهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يُرْسِلُ مِنْهَا إِلَى الْأَبْدَانِ جُمْلَةً بَعْدَ جُمْلَةٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ. فَهَذَا لَا تَدُلُّ الْآثَارُ عَلَيْهِ، نَعَمِ، الرَّبُّ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مِنْهَا جُمْلَةً بَعْدَ جُمْلَةٍ، كَمَا قَالَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ بِهِ التَّقْدِيرُ أَوَّلًا، فَيَجِيءُ الْخَلْقُ الْخَارِجِيُّ مُطَابِقًا لِلتَّقْدِيرِ السَّابِقِ، كَشَأْنِهِ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَإِنَّهُ قَدَّرَ لَهَا أَقْدَارًا وَآجَالًا، وَصِفَاتٍ وَهَيْئَاتٍ، ثُمَّ أَبْرَزَهَا إِلَى الْوُجُودِ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ التَّقْدِيرِ السَّابِقِ". اهـ

"شرح العقيدة الطحاوية"، ص216، 217.

والحاصل أن للجنين ثلاثة أطوار قبل نفخ الروح فيه، مقدار كل منها أربعون يوما فـ:

الأربعون الأولى: طور النطفة وبنهايتها تصير النطفة علقة.

والأربعون الثانية: طور العلقة وفي مبدئها يقع تقدير التصوير للسمع والبصر والعظم واللحم والجلد، ولا يقع ذلك التصوير إلا في الأربعين الثالثة، ولا يكتمل إلا بعد تمامها.

والأربعون الثالثة: طور المضغة وفيها يصور الجنين، وباكتمالها ينفخ الروح في الجنين.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"الجمع بين هذه الروايات أَن للملك ملازمة ومراعاة بحال النطفة، وأنه يقول: يا رب هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة فى أوقاتها. فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله تعالى، وهو أعلم بها وبكلام الملك، فتصرفه فى أوقات: أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقلها علقة، وهو أول أوقات علم الملك بأنه ولد، لأنه ليس كل نطفة تصير ولداً، وذلك بعد الأربعين الأُولى فى أول الطور الثانى. ولهذا - والله أعلم - وقعت الإشارة إليه فى أول سورة أنزلها على رسوله: {إقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذى خَلَقَ خلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1 - 2] إذ خلقه من علقة هو أول مبدء الإِنسانية، وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته ثم للملك فيه تصرُّف آخر في وقت آخر وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأُنوثيته وهذا إنما يكون فى الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيها فإن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره. فها هنا تقديران وكتابان: التقدير الأول عند ابتداء تعليق التخليق فى النطفة وهو إذا مضى عليها أربعون ودخلت فى طور العلقة. ولهذا فى إحدى الروايات: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة". والتقدير الثاني الكتابة الثانية إذا كمل تصويره وتخليقه وتقدير أعضائه وكونه ذكراً أو أنثى. فالتقدير الأول تقدير لما يكون

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير