عز وجل، بل لو غلا في النفي، للزمه نفي وجود الرب، جل وعلا، إذ قد صيره عدما بسلب أوصاف كماله، أو وصفه بالسلوب على حد التفصيل فليس بكذا وليس بكذا ........... على ما قرره أهل التجهم والاعتزال ومن تأثر بمقالتهم من المتكلمين، وإن لم يكونوا على ذات الحد من الغلو في النفي والتجريد.
فهذا فرقان ما بين طريقة الأنبياء وطريقة الفلاسفة، ظهر أثر منه في باب القدر، إذ نفي صفة الكلام: نفي للقدر، فهو كائن بالكلمات التكوينية على ما تقدم بيانه مفصلا، وهو سار في كل أبواب الدين: أصولا وفروعا، فلا يكون عمل صحيح إلا بتصور علمي صحيح المبنى صريح المعنى يوافق ما جاء به الرسل، عليهم السلام، من أخبار محكمات في الإلهيات والشرعيات، فالإلهيات: غيب مطلق لا يجدي قياس فلسفي في إدراكه، وإن أصاب فيه شيئا من الحق: فإصابة ظان متخرص لا راسخ متيقن، فالرسوخ واليقين لا يكون إلا من مشكاة النبيين عليهم السلام.
فَيَفْرِقُ المأمور الكوني المُحكَم بالأمر الكوني المُحكِم.
فالمصدر في الآيتين: جار على حد استعمال المبنى الواحد في الدلالة على أكثر من معنى في ذات السياق، فهو في الآية الأولى: مفعول مقدر من الأزل منسوخ من اللوح إلى الصحف في ليلة القدر أو النصف من شعبان على خلاف في ذلك، كائن في عالم الشهادة إذا أراد الله، عز وجل، وقوعه، فتأويله يكون بالتقدير اليومي الذي يصير الغيب فيه شهادة، فيقع كما قدر الباري، عز وجل، أزلا، على الحد الذي قدره فلا يزيد ولا ينقص، وذلك مئنة من: كمال القدرة على إيقاع المقدورات، وكمال الحكمة في إيقاعها على صفات ومقادير معينة بها يحصل من الحكم والمصالح ما تعجز عقول البشر عن حده، وإن وفق الله، عز وجل، من وفق من المسددين إلى إدراك طرف منها.
وهو في الآية الثانية: الأمر الذي به يكون المأمور، فهو المكوِّن له، فعنه قد صدر صدور المسبَّب عن سببه، فكل الأسباب الكونية راجعة إلى السبب الأول الذي لا سبب بعده: كلمات الرب، جل وعلا، الكونيات النافذات، التي هي من صفاته، وصفاته: غير مخلوقة، فليس لها علل تسبقها لتصدر عنها صدور المخلوق من خالقه، فهي صفات الرب الفاعلة التي بها تقع المفعولات الحادثة، فكيف تكون مفعولة لغيرها؟!، فذلك من البطلان بمكان.
فلا يستقيم أمر الكون والشرع إلا بإثبات صفات الرب المعبود، جل وعلا، على حد ما نزل به الوحي ونطق به الرسل عليهم السلام. بل لا يستقيم أمر الخليقة إلا بالامتثال التام لأمر الملك، عز وجل، تصورا وحكما، عقدا باطنا وشرعا ظاهرا، علما وعملا.
ومن فروع هذه المسألة:
بيان أنواع المقادير التي تندرج تحت المرتبة الثانية من مراتب القدر: مرتبة الكتابة الكونية النافذة:
فإن التقدير على خمسة أنحاء:
التقدير الأزلي: وهو ما كتبه الله، عز وجل، بالقلم الكوني الأول، الذي سطر في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة مقادير العباد التي علمها الرب، جل وعلا، أزلا، فجاء المكتوب المقدور على حد المعلوم أزلا.
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ): فجاءت الكتابة الشرعية في الكتب المنزلة مؤكدة للكتابة الكونية المسطورة في اللوح المحفوظ للسنة الكونية النافذة في وراثة الأرض لأتباع الرسل عليهم السلام. فإن قلم التشريع لا يعارض قلم التكوين، إذ الكلمات الكونيات والكلمات الشرعيات صادرة من الرب الواحد، عز وجل، فتناقضها أمر محال بداهة، لاتحاد الأصل الذي صدرت منه صدور الوصف من الموصوف كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ):
فجمعت الآية بين الكتابة الحادثة والكتابة الأزلية:
فكتابة الملائكة: كتابة حادثة تتعلق بالعلم الثاني: علم الظهور والانكشاف، علم: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)، فتأتي مواطئة للمسطور أزلا في الكتاب الأول.
¥