تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذه المسائل العظيمة القدر من أَهم مسائل الإيمان بالقدر، فصلوات الله وسلامه على كاشف الغمة وهادي الأمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم". اهـ

ص94.

فالشقاوة والسعادة أمر قد أبرم أزلا فما كتب على ابن آدم من الطاعة أو المعصية كائن لا محالة، ولكنه لا يخرج إلى عالم الشهادة إلا بمباشرة أسبابه، ومباشرة الأسباب لا تكون إلا بإرادات مختارة لا مجبرة على الفعل، إذ لا يكلف مكره بشرع، وإنما تجري عليه أحكام الكون، جريانها على حركاته غير الاختيارية، فلا يستوي ما يوقعه المكلف مختارا من الأفعال التي تجري عليها الأحكام التكليفية الخمسة، وما يقع له على حد الاضطرار فلا يملك له دفعا أو رفعا كسائر النوازل الكونية، فالأول يتعلق به المدح والذم والثواب والعقاب، إذ للعبد فيه اختيار، والثاني لا يتعلق به لعدم الاختيار.

فله إرادة تتلقف لمة الملك بالخير، أو لمة الشيطان بالشر، فتولد منها طاقة فعل، يتولد منها هي الأخرى: فعل وجودي في عالم الشهادة يلائم التصور الأول: خير أو شرا، فالنفس كالرحى تطحن ما يلقى فيها من الخطرات، فإن كان حبا نافعا أنتج دقيقا صالحا للاغتذاء، فيحصل له بذلك من كمال الانتفاع بقواه العلمية والإرادية والعملية ما يتعلق به المدح المستوجب للثواب الأخروي والنجاة من العذاب الناري.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً فَلَمَّةُ الْمَلَكِ: إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ. وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ. وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ مَحْفُوظٌ عَنْهُ وَرُبَّمَا رَفَعَهُ بَعْضُهُمْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ مِنْ شُعُورٍ وَإِرَادَةٍ. وَذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ قُوَّةُ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَاسِ وَالْإِدْرَاكِ وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ وَالْحَرَكَةِ وَإِحْدَاهُمَا أَصْلُ الثَّانِيَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهَا. وَالثَّانِيَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْأُولَى وَمُكَمِّلَةٌ لَهَا. فَهُوَ بِالْأُولَى يُصَدِّقُ بِالْحَقِّ وَيُكَذِّبُ بِالْبَاطِلِ وَبِالثَّانِيَةِ يُحِبُّ النَّافِعَ الْمُلَائِمَ لَهُ؛ وَيُبْغِضُ الضَّارَّ الْمُنَافِيَ لَهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ عِبَادَهُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فِيهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَمَعْرِفَةُ الْبَاطِلِ وَالتَّكْذِيبُ بِهِ وَمَعْرِفَةُ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ وَمَعْرِفَةُ الضَّارِّ الْمُنَافِي وَالْبُغْضُ لَهُ بِالْفِطْرَةِ. فَمَا كَانَ حَقًّا مَوْجُودًا صَدَّقَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ وَمَا كَانَ حَقًّا نَافِعًا عَرَفَتْهُ الْفِطْرَةُ فَأَحَبَّتْهُ وَاطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ. وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ وَمَا كَانَ بَاطِلًا مَعْدُومًا كَذَّبَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ فَأَبْغَضَتْهُ الْفِطْرَةُ فَأَنْكَرَتْهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}. وَالْإِنْسَانُ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: " {أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ} " فَهُوَ دَائِمًا يَهُمُّ وَيَعْمَلُ لَكِنَّهُ لَا يَعْمَلُ إلَّا مَا يَرْجُو نَفْعَهُ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّتِهِ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الرَّجَاءُ مَبْنِيًّا عَلَى اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ إمَّا فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ: فَلَا يَكُونُ نَافِعًا وَلَا ضَارًّا وَإِمَّا فِي الْوَسِيلَةِ: فَلَا تَكُونُ طَرِيقًا إلَيْهِ. وَهَذَا جَهْلٌ. وَقَدْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ يَضُرُّهُ وَيَفْعَلُهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ وَيَتْرُكُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ عَارَضَهُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ طَلَبِ لَذَّةٍ أُخْرَى أَوْ دَفْعِ أَلَمٍ آخَرَ جَاهِلًا ظَالِمًا حَيْثُ قَدَّمَ هَذَا عَلَى ذَاكَ". اهـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير