تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلا ينفك الإنسان عن قوة علمية بها يكون التصور الذي ينتج الإرادات الجازمة على إيقاع المفعولات في عالم الشهادة، فإن صحت آلات الفعل، وقدر الباري، عز وجل، خلق الإرادة على حد الجزم المتقدم، وخلق طاقة الفعل التي بها يباشر العبد أسباب إيجاده في عالم الشهادة، إذا حصل كل ذلك فهو السابق لكل فعل نراه في عالم الشهادة، فإن الفعل كائن لا محالة، بقدرة الرب، جل وعلا، النافذة، وإرادة العبد الجازمة المؤثرة، ويبقى الإشكال في التصور فإنه إن صدر من الوحي المعصوم أفاد إرادات وأعمال صالحة ينتفع بها العبد وإن وقع له منها ألم عارض لا ينفك عنه أي فعل ولو كان مباشرة لذة، فإنه لا تخلص لذة في هذه الدنيا من ألم لتحصيل أسبابها، وألم حال مباشرتها، وثقل أو فتور بعد مباشرتها. وإن صدر التصور من غير الوحي أنتج إرادات وأعمال فاسدة وإن ظنها الفاعل صحيحة فيستجلب بها لذات عاجلة ومصالح طارئة تفوت عليه لذات ومصالح خيرا وأبقى.

وبقدر تضلعك من علم النبوات يصح تصورك فينتج أعمالها على حد الصلاح في نفس الأمر لا في تصور الفاعل الذي يظن القبح عين الحسن، والضرر عين النفع إن لم يزن أحواله وأفعاله بميزان النبوة الدقيق.

فالسلسلة كما فصل ابن القيم، رحمه الله، حلقاتها في "الفوائد" بقوله:

"واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل فتستحكم فتصير عادة فرّدها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها. ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به , ومساكنته له , وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه كما قال الصحابة رضوان الله عليهم: يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال:"أوقد وجدتموه؟ " قالوا: نعم قال:"ذاك صريح الإيمان" وفي لفظ: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) ". اهـ

وقد حمل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ذاك صريح الإيمان": على وقوع نفس الوسواس في قول فإن اللص لا يطمع في بيت خرب فكذلك الشيطان لا يطمع في قلب خرب.

أو على مدافعته فمدافعته هي صريح الإيمان.

وتلك القوى لا ينفك عنها أي حي حساس متحرك، ولو كان بهيمة عجماء، فإنها تتحرك إلى ما ينفعها، وإن قصرت آلة الإدراك فيها، فليس لها من ذلك إلا إدراك المنفعة العاجلة دون نظر في المآلات، فذلك مما اختص به العقلاء، فلو قدمت لها طعاما مسموما فإنها ستأكله، ولو كان فيه هلاكها، لأن آلة الفهم عندها تعجز عن إدراك الضرر الآجل من تناول هذا الطعام وإن حصلت به لذة عاجلة، فهكذا الإنسان الذي يقدم اللذة العاجلة على اللذة الآجلة، فيعمل أسباب الدنيا الفانية، ويهمل أسباب الآخرة الباقية، مع خسة الأولى ونفاسة الثانية، فلو كانت الأولى، على حد الفرض العقلي، أنفس، لكان وصف الفناء الملازم لها مما يزهد النفس فيها، فالعاقل يقدم الباقي على الفاني، ولو كان أنقص، فكيف إذا كان المقدم على حد الخسة والفناء، والمؤخر على حد النفاسة والبقاء، ألا يكون ذلك انحطاطا إلى مرتبة البهائم التي تأكل كل ما يلقى إليها وإن كان فيه هلاكها؟!، فمثل ذلك كالرحى التي يطحن صاحبها كل ما يلقى فيها فلا يميز الخبيث من الطيب، فإن ألقي إليه حب طحنه فأنتج دقيقا صالحا يغتذي به البدن ويصلح، وإن ألقي فيه تراب أو حصى طحنه فأنتج ما لا ينتفع به فلو اغتذى به البدن لهلك!.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه فإن وضع فيها حب طحنته , وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لا بد لها من شيء يوضع فيها , فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك فإذا جاء وقت تعجن والخبز تبيّن له حقيقة طحينه". اهـ

سوف ترى إذا انجلى الغبار ******* أفرس تحتك أم حمار

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير