تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والطاحن في كلا الحالين: واحد، إذ لا تصور علمي صحيح عند صاحب الرحى يميز به بين النافع والضار، فذلك مما لا يتلقى إلا من الرسل عليهم السلام، فالنبوات هي التي تزكي تلك المحال، وتصحح تلك الإرادات، وتوجه تلك القوى العاملة إلى تحصيل ما ينفعها من المصالح الدينية والدنيوية المعتبرة، فإنها قوى فاعلة لا محالة، فإن لم تفعل على حد الخطرات الملكية التي أبانت عنها الطرائق النبوية على حد التفصيل الرافع لكل إجمال، إن لم تفعل على ذلك الحد: فعلت على حد الخطرات الشيطانية التي تعارض الوحي المنزل، فهي على النقيض منه، فلا يجتمعان ولا يرتفعان، فالحارث الهمام لا يكف عن الهم بمقتضى ما عنده من القوى العلمية ولا يكف لزوما عن الحرث الصادر عن تلك التصورات الأولى، فهم علمي سابق يتبعه حرث عملي لاحق، فلا يجتمع الضربان من الخواطر وإن كان المحل القابل لأيهما واحد، فهو: قلب المكلف: ميدان الصراع الدائر بين الوحي الرحماني والوحي الشيطاني فهو للغالب منهما، والغلبة إنما تكون للأقوى سلطانا، فمن باشر علوم النبوات وأعمالها فهو إلى النجاة أقرب، ومن هجرها فهو إلى الهلاك أقرب، والمكلفون في ذلك الصراع على مراتب يعجز العادون عن عدها فهي متعددة بتعدد القلوب التي تدور فيها تلك المعركة المستمرة من لدن عصى آدم عليه السلام فأنزل إلى دار التكليف إلى قيام الساعة: خاصة على حد ما روي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإسناد فيه كلام وإن كان معناه صحيحا: "إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته"، أو عامة على حد قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)

فإما هذا وإما ذاك، فلا يتصور وجود نفس بلا حراك علمي في الذهن، وحراك عملي في الخارج، إذ من لا حراك له فهو ميت قد نزعت منه التصورات العلمية والإرادات العملية، وإذ كان الأمر كذلك، فإنه لا أحق من الخواطر بالعناية، وهو ما أشار إليه ابن القيم، رحمه الله، في موضع تال من "طريق الهجرتين"، وفصل القول فيه في "الفوائد" فقال:

"فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده وإن قبلته صار فكرا جوّالا فاستخدم الإرادة فتساعد هي والفكر على استخدام الجوارح فإن تعذّر استخدامها رجعا إلى القلب بالتمني والشهوة وتوجه هو إلى جهة المراد ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل وتداركه أسهل من قطع العوائد فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر في ما لا يعني باب كل شر , ومن فكّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه فالفكر والخواطر, والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من النفس فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك. وإياك أن تمكّن الشيطان من بيت أفكارك وإراداتك فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تداركه , ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرّة ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك فمثلك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيّد الحبوب , فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته , فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه وإن مكّنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسدا. والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك , وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون أو فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها وإما في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية ولا يقف منها على نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح همّه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير