تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالكتابة هنا على حد الكتابة الكونية، فإن الله، عز وجل، لا يكتب الزنا أو مبادئه على العبد شرعا، إذ ذلك من المحال بمكان، بل يأمر بضد ذلك على حد التشريع، على وزان قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فإن أمر بما هو شر في نفسه، باعتبار الشر الكائن في المقدور الكوني الجاري على خلاف المراد الشرعي، إن أمر به، فعلى حد الأمر الكوني النافذ الذي يشمل المحبوبات المرادة لذاتها، والمكروهات المرادة لغيرها، إذ بها تستجلب حكم ومصالح أعظم، كما تقدم مرارا، فهو على حد الأمر في قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، فأمرناهم كونا بالفسق، وإن نهوا عنه شرعا، لحكم إلهية ومصالح آدمية تستنبط بتلك المفسدة الجزئية، وتلك عين الحكمة الإلهية إذ السنة الكونية التي أقيم عليها الكون قد اقتضت ندرة بل ربما انعدام المصلحة الخالصة، إذ الدار: دار ابتلاء، فلا يناسبها خلوص أجناس النعيم من الآلام فليس ذلك إلا في دار النعيم الأزلي حيث المصالح الخالصة والنعم الكاملة فلا منغص لها، وأعظمها: رؤية الباري، عز وجل، على حد التنعم، فلا تكون إلا لأصحاب دار السعادة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

فلا تنفك أي مصلحة دنيوية عن ألم ومشقة حال تحصيلها وحال مباشرتها، بل لو أفرط في تناولها، ولو كانت على حد الإباحة المطلقة، لآذته، وربما صارت على حد الكراهة أو التحريم لو أدت إلى وقوع التقصير في تحصيل ما هو أولى من المندوبات أو الواجبات.

فلا راحة في دار الابتلاء إلا على جسر من التعب، وهي، مع ذلك، راحة صغرى يعقبها التعب والكلال لا محالة، فتلك السنة الكونية المطردة، فالإعياء يلحق القلوب والأبدان، فالهموم تغزوا كل قلب، وإن كان أشجع قلب، فقد أصابت قلوب الأنبياء والصديقين، فذلك من الفدر الكوني النافذ، فصبروا عليها وجالدوها بمقتضى القدر الشرعي الحاكم فهم أولى الناس به مسارعة في رضا الرب جل وعلا، والآلام تغزو الأبدان، وإن كانت أقوى الأبدان، فبعد الصحة اعتلال، وبعد القوة ضعف، وبعد النشاط كلال، فتلك، أيضا، سنة كونية جارية، على حد قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)، وذلك أمر لم بسلم منه بشر، وإن كان على حد النبوة أو الصديقية أو الولاية، فهو من أعراض النقص الجبلي في بني آدم، إظهارا لكمال الرب، جل وعلا، الغني بذاته، فلا يفتقر إلى سبب إبقاء، بل هو الباقي، تبارك وتعالى، على حد الأولية والآخرية المطلقة، فذلك وصف ذاتي لازم له، عز وجل، بل هو المبقي لغيره، فإبقاء ما سواه فرع عن إبقائه الذي هو وصف فعله المتعلق بمشيئته، فكل بقاء من إبقائه صادر.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِى وَلا اسْتَخْلَفَ مَنْ خَلِيفة إِلا كَانَ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْصُوم مَنْ عَصَمَهُ اللهُ". اهـ

ص96.

فبطانة الخير على حد ما تقدم من لمة الملك، فهي من جنسها تأمره بالخير على حد النصح الخالص، وبطانة السوء تأمره بالشر المحض على حد الوسوسة والتزيين، على حد ما نرى في عالم الشهادة، من تحسين المنتفعين من بطانة السوء لأصحاب العروش كل صور القبح العادي والشرعي، فيرونه بأعينهم: عين المصلحة، وهو محض مفسدة، فذلك من التزيين الإبليسي، فهو إمامهم في تزيين الباطل لأتباعه، على حد قوله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)، وما ذلك إلا لمنافع آنية أنانية تهدر فيها المصالح الكلية العامة تحصيلا لمنافع جزئية خاصة، فذلك على الضد من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير