فتلك حجتهم الباهتة، إذ فيها من سوء الظن بالباري، عز وجل، ما فيها، فإن التزام الهدى مظنة تمكينهم لا إسلامهم إلى أعدائهم، وإن ابتلي حزب الإيمان بالتضييق والاستئصال الجزئي، فإن العاقبة والدولة لهم، وإن ظهر عليهم أعداء الرسالة في جولة أو جولات.
وجاء الفعل على حد الزيادة في المبنى مئنة من الزيادة في المعنى الذي يتذرع به أولئك إلى الإقامة على ما هم فيه من الضلال، على حد: الضرورات تبيح المحظورات!.
وتلك حجة من البطلان بمكان، ولذلك جاء التعقيب بتذكيرهم بدلائل العناية بهم من الأمن وسعة الأرزاق، و: "كل" بحسب السياق الذي ترد فيه إذ العموم هنا مخصوص بما يجبى إلى مكة من الثمار فليست ثمار كل شيء بداهة، وإنما جاء العموم تقريرا لعظم المنة الربانية عليهم.
وإليه أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:
"و {كل شيء} عام في كل ذي ثمرة وهو عموم عرفي، أي ثمر كل شيء من الأشياء المثمرة المعروفة في بلادهم والمجاورة لهم أو استعمل {كل} في معنى الكثرة". اهـ
أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ: فذلك من الاستفهام التقريري للنعمة الكونية السابغة: نعمة الأمن التي لا تطيب نعمة إلا بها، فلو جمعت لك كل النعم مع افتقارك إلى الأمن فأنت في خوف ينغص عليك لذات تلك النعم، ولا يدرك ذلك إلا من ابتلي بالخوف على النفس أو المال أو العرض أو الولد، فمن عافاه الله، عز وجل، من ذلك الابتلاء العظيم فليسأل الله، عز وجل، السلامة في دينه ودنياه، وليدم الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه، وليلتزم الطاعة ويجتنب المعصية صيانة لتلك النعمة إذ بذهابها يصير الحي في عداد الأموات فانتفاعه بحياته قد زال أو كاد.
وهو من جهة أخرى توبيخي لهم في معرض تذكيرهم بدليل العناية بهم مع توليهم عن أداء شكرها، بل تلبسهم بضده من الجحود والكفران، فناسب ذلك تقدير معطوف يزيد معنى التوبيخ شدة على وزان: أتركناهم ولم نمكن ........ ، ووصف الحرم بالأمن، فذلك أساس كل نعمة، كما تقدم، ثم جاء الوصف بجملة: "يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ" على حد المضارعة إمعانا في تقرير تلك العناية. أو هو بمنزلة الحال من النكرة: "حرما" إذ أكسبها الوصف: "آمنا": نوع تخصيص جوز وقوع الحال منها.
ثم جاء الإطناب في معرض تقرير هذه النعمة الربانية بحال أخرى: "رزقا" من: "ثمرات".
وقوله: "من لدنا": مئنة من عظم وشرف هذا الرزق، فشرفه من شرف من صدر عنه صدور المخلوق من خالقه، على ما اطرد من دلالة: "من" على ابتداء الغاية فابتداء غاية كل نعمة شرعية وكونية من رب البرية جل وعلا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 10 - 2009, 05:58 م]ـ
عذرا فالمشاركة الأخيرة ليست متعلقة بسياق الكلام في هذه المداخلات.
وعودة إلى سياق كلام ابن القيم:
يقول رحمه الله:
"وفي صحيح البخاري من حديث الحسن عن عمرو بن تغلب قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم مال، فأعطى قوماً ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا، فقال: "إِنِي أَعْطِي الرَّجُل وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَي مِنَ الَّذِي أَعْطِي، أَعْطِي أَقْوَاماً لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالهَلَع، وَأَكِلُ أَقْوَاماً إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالْخَيْرِ الحديث".
ص96، 97.
فمن جزع وهلع فهو على حد ما جبل عليه الإنسان بمقتضى السنة الكونية النافذة سنة: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)، فذلك وصفهم الكوني الذي يدافعه أهل الإيمان من: (الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)، فيكل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقواما إلى ما قام بهم من أوصاف القناعة والخير بمقتضى ما التزموه من القدر الشرعي، فقد هذب ما جبلوا عليه من الأخلاق الكونية الجبلية التي لا يلام الإنسان عليها، وإنما يلام على عدم مدافعته لها بالأقدار الشرعية التي لا تتلقى إلا من النبوات، فهي، كما تقدم مرارا، قد أتت بأصدق الأخبار العلمية التي صححت التصورات العقلية، وأعدل الأحكام العملية التي صادفت محالا
¥