تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"وفي الصحيحين عن على رضي الله عنه قال: كنا فى جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة، فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض، ثم رفع رأْسه فقال: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا قَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا من النَّارِ أَوْ الْجَنَّةِ، إِلا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةٌ أَوْ سَعِيدَةٌ". قال: فقال رجل من القوم: يا نبي الله أو لا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة؟ قال: "اعْمَلُوا، فَكُل مُيَسَّر، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَة فَيُيَسَّرُونَ لِلسَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِلشَّقَاوَةِ ثم قرأ نبي الله: {فَأَمّا مَنْ أَعْطَىَ وَاتّقَىَ وَصَدّقَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىَ وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ} [الليل: 5_10] ". اهـ

ص98.

فالاتكال إنما يكون على معلوم، والإنسان لا يعلم مصيره إلى جنة أو نار ليحتج به على ترك العمل، بل السنة الكونية قد اقتضت وقوع المسطور في اللوح المحفوظ وفق سنة كونية جارية يكون فيها المسبَّب في عالم الشهادة فرعا عن سببه، فلا بد من العمل لتأويل المعلوم الأول العدمي الذي علم أزلا وكتب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فتأويله في عالم الشهادة لا يكون إلا بمباشرة أسبابه، فلا يكون مسبَّب بلا سبب، فذلك من المسلمات العقلية التي لا يجادل في صحتها عامة العقلاء، فإذا وقع في عالم الشهادة صار وجوديا بعد أن كان عدميا فصح تعلق الأحكام به صحة أو فسادا، تحريما أو تحليلا.

فأهل السعادة لأسباب السعادة ميسرون، إذ يخلق الله، عز وجل، لهم من إرادات الخير الجازمة ما تقع به أفعالهم المخلوقة في عالم الشهادة على وفق إرادته الشرعية الحاكمة، فيواطئ الشرع القدر في حقهم، إذ لم يكن لهم أن يفعلوا ما فعلوا من الطاعات لولا أن مَنَّ الله، عز وجل، عليهم، بخلق الإرادات وصحة الآلات وإيجاد المقدورات على الوجه الذي يحبه ويرضاه، فله الحمد في الأولى أن أوجد وأعد المحال لقبول أثر الطاعات، وله الحمد في الآخرة أن أمد وأقدر على إيقاع المفعولات على ما يحب ويرضى.

وأهل الشقاوة لأسباب الشقاوة ميسرون، إذ يخلق الله، عز وجل، لهم من إرادات الشر الجازمة ما تقع به أفعالهم المخلوقة في عالم الشهادة على ضد إرادته الشرعية الحاكمة، فيخالف القدر الكوني في حقهم القدر الشرعي، إذ لم يمتثلوا الشرع على ما قدر الله، عز وجل، في الكون، إذ لم يشأ معونتهم بهداية التوفيق والإلهام وإن أقام عليهم الحجة ببعث الرسل بهداية الدلالة والإرشاد.

والفريقان على سنن الحكمة الربانية يجريان: فبعث، عز وجل، الرسل، عليهم السلام، على حد البشارة والنذارة، فأقيمت الحجة الرسالية على كليهما، فذلك من فضله إذ لم يترك الخلق بلا دليل مرشد إلى طريق السعادة في الحال والمآل، بل بعثه بالبيان المفصل لأسباب النجاة العلمية مما أجمل من الفطرة التوحيدية وأسباب السعادة العملية بما شرعه من أحكام يكون بها صلاح الأفراد والجماعات، فعقيدة علمية محكمة، وشريعة عملية متقنة، ثم اقتضت حكمته أن يسر أسباب الامتثال لطائفة فضلا، ويسر أسباب العصيان لطائفة عدلا، فلم يمنع كليهما أمرا هو له، يل هما بين فضله وعدله يتراوحان، فلو منح الفضل لأهل العدل ما انتفعوا به لعدم قبول محالهم لآثاره، ولو منع الفضل أهله لعطل، جل وعلا، عن وصف حكمته، إذ لازمها وضع الشيء في محله، ومنع الشيء من موضعه الملائم له مما ينافيها، فبمقتضى ما علمه بعلمه التقديري الأزلي في عالم الغيب العدمي من حالهم الكائن في عالم الشهادة الوجودي، وضع الهداية فيمن هو لها أهل فذلك جار على حد الفضل، وحجبها عمن ليس لها بأهل فذلك حد العدل، فبالعلم الأول يكون تقدير المحال صلاحا أو فسادا، وبالحكمة البالغة يضع الرب، جل وعلا، الخير في المحال القابلة له، ويضع الشر في المحال القابلة له، وبالقدرة النافذة يكون تأويل ذلك في عالم الشهادة ليصير وجوديا بعد أن كان عدميا فيصح تعلق الثواب

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير