تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فيتفاوت الناس بين الطيب والخبث تفاوتا لا يحصي مراتبه إلا الله، عز وجل، فهو على وزان التفاوت في الإيمان قوة وضعفا.

فالحديث قد استوفى شطري الخلقة الآدمية: الخَلق الظاهر والخُلق الباطن، البدن والروح، فالألوان للأبدان، والأخلاق للأرواح، وذلك، كما تقدم، مئنة من عموم ربوبيته، جل وعلا، إذ لو كان الخلق على صورة واحدة، لقال قائل: بالصدفة أو الآلية بلا قوة مدبرة فاعلة، ولتعطلت كثير من الحكم الربانية الجليلة التي تظهر باختلاف الأجناس والطبائع، ولتعطلت عبوديات المدافعة بين المتضادات، فالرب، جل وعلا، هو خالق: المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وقد اقتضت سنته أن يغزو أحدهما الآخر، فالصدام بينهما حتم لازم، سواء أكان ذلك في ميادين الفكر أم الحرب، فإن لم يبادر أهل الإيمان، سبق أهل الكفران، فكانت الدولة لهم، وإن أعد أهل الإيمان العدة المعنوية من علوم نافعة وأعمال صالحة على حد التفوق المطلق، والعدة المادية على قدر الاستطاعة، فالنصر حليفهم، و: "الآن نغزوهم ولا يغزونا" وإنما ينصر الله، عز وجل، من خرج ذبا عن الدين أو بلاغا له، فتلك غاية الرب، جل وعلا، من شرع الجهاد، فلم يشرع لفتح البلاد بسيف الجور، وإنما شرع لفتح القلوب بسيف العدل، فهو سيف عدل، يزيل من حال بين أمم الأرض ورسالة السماء من الطواغيت المتنفذين الذين أبطل الشرع ولاياتهم فرد الأمر إلى مدبر الأمر، جل وعلا، على حد قول ربعي رضي الله عنه: "لكن الله ابتعثنا لنخرج العباد؛ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا، إلى سَعَة الآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام"، وهذا فرقان عظيم بين سيوف الموحدين وسيوف الملحدين.

وفي الحديث إثبات صفة القبض لله، عز وجل، فهي من أوصاف أفعاله المتعلقة بمشيئته الكونية النافذة، فلما شاء خلق آدم قبض مادته من الأرض، وقد جاء القبض في التنزيل في معرض بيان الثواب في نحو قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وعممه البغوي، رحمه الله، على صور أخرى على حد اختلاف التنوع، فما ذكره من المتقابلات جار مجرى تفسير العام بذكر أفراد منه على حد التمثيل الذي يكون به تمام البيان.

قال رحمه الله:

"قيل: يقبض بإمساك الرزق والنفس والتقتير ويبسط بالتوسيع وقيل يقبض بقبول التوبة والصدقة ويبسط بالخلف والثواب، وقيل هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ومن مد له في عمره فقد بسط له، وقيل هذا في القلوب، لما أمرهم الله تعالى بالصدقة أخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، قال: يقبض بعض القلوب فلا ينشط بخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيرا كما جاء في الحديث: "القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها الله كيف يشاء" الحديث". اهـ

وذلك أولى من جهة عموم معناه، فذلك أصل مطرد في تفسير آي الكتاب العزيز به يزداد السياق ثراء بتوارد المعاني على سياق واحد، كما تقدم مرارا، ولعل تلك نكتة حذف مفعول: "يقبض" و: "يبسط"، فأطلقا عن التقييد بالمفعول مئنة من عموم المعنى صورا متعددة، فذلك من بلاغة التنزيل إيجازا بالحذف مئنة من عموم اللفظ.

والقبض من الصفات التي يلزم شفعها بمقابلها لئلا يتوهم من إفرادها بالذكر عجز الرب، جل وعلا، عن ضدها، على حد ما تقدم من عموم ربوبيته، جل وعلا، إذ ذلك أمر جار في أوصافه فمنها: أوصاف الجمال، والبسط منها فذلك من فضله الذي يرغب، ومنها أوصاف الجلال، والقبض منها، فذلك من عدله الذي يرهب، وجار في مفعولاته على حد ما تقدم من اختلاف الأجناس والأخلاق.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير