تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فكلما كان المخطِّط أوسع علما وأدق ملاحظة فلا تفوته صغيرة أو كبيرة بقدر الاستطاعة البشرية، كان المخطط التنفيذي لمشروعه أجود، ولله المثل الأعلى، فهو الأعلم من كل البشر بداهة، فليس علمه مكتسبا كعلومهم فيكون كمال وصفهم من كمال فعلهم، فلا يتصدر لعظائم الأمور إلا أصحاب الخبرة ممن اكتسبوا علوما وتجارب تؤهلهم لذلك، بل علمه ذاتي أزلي، لا تطرأ عليه زيادة بالفعل، فلا يفعل كفعلهم ليكتسب علما كان عنه معطلا، بل فعله صادر عن كماله الذاتي، فتقديره بعلم قد بلغ حد الكمال بالكليات والجزئيات، هو من وصف ذاته الملازم له باعتبار نوعه، وله نوع تعلق بمشيئته النافذة، إذ يتعلق بالمعلوم إذ كان مسطورا في اللوح معدوما في الغيب، ويتعلق به إذ صار كائنا موجودا في عالم الشهادة، فيتعدد تعلقه بالموجودات إذ تتعدد هي الأخرى بتعدد المشيئات الربانية النافذة الموجدة لها في عالم الشهادة.

فمن قدح في علمه فقد قدح في قدره، إذ هو عنه صادر كمن ادعى من الفلاسفة علمه بالكليات دون الجزئيات، فذلك قدح في قدره المكون لأدق تفاصيل الكائنات، فإن لم يكن الرب، جل وعلا، عالما بها أزلا، لم يكن مقدرا موجدا لها في عالم الشهادة بداهة، إذ لا يخلق إلا من يعلم، فيأتي المعلوم المخلوق على حد ما علم وقدر خالقه، عز وجل، فيعلم ثم يثبت علمه كتابة ثم يشاء إيجاده ثم يخلقه، ولا يعلم على حد التفصيل الدقيق إلا من خلق على حد قوله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، إذ لا يتصور مشروع ضخم بلا تخطيط مسبق لأدق تفاصيله، ولله المثل الأعلى، فكيف يكون عالما بالكليات على حد العموم المجمل دون الجزئيات على حد الخصوص المفصل لذلك الإجمال، بل الصحيح أن علمه: إجمالي كلي، تفصيلي جزئي.

ويقال أيضا: لا يتصور بعد تخطيط مشروع ضخم على حد بالغ من الإتقان، لا يتصور تنفيذه بلا طاقات وقدرات تخرجه إلى الوجود على النحو الذي أراده مصمموه، ولله المثل الأعلى، فإنه بعد التقدير الأزلي يخرج المقدورات إلى عالم الشهادة بقدرة نافذة، فتجيء على وفق ما علم وقدر دون زيادة أو نقصان، وهذا وجه آخر يفترق فيه فعل الرب، جل وعلا، عن فعل العبد، إذ لا هامش خطأ في تنفيذ الرب، جل وعلا، فلا يجيء المقدور الوجودي إلا مطابقا للقدر الأزلي، بخلاف تنفيذ العبد، إذ لا يخلو البنيان من عيوب فنية، ولو دقيقة، مهما بلغت حنكة أطقم التنفيذ من مهندسين ومشرفين وعمال.

ويقال ثالثا: إن أي مشروع في عالم الشهادة لا بد له من عائد، ولذلك ينشئ الصانع قبل شروعه في الفعل: دراسة جدوى لما يعتزم صنعه، فكم سيكلف، وبكم سيباع ........ إلخ، وذلك يتطلب حكمة في تقدير المآلات، ولله المثل الأعلى، فإنه لم ينشيء هذا الكون عبثا، على حد قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ): فذلك استفهام إنكاري إبطالي لتلك المقالة الفاسدة، فلا يكون ذلك إلا عن سوء في الفهم وفساد في العقل، إذ كيف يكون هذا الكون على هذا الحد من الإتقان في الصنعة والاطراد في السنة، كيف يكون بذلك الوصف قد خلق عبثا؟!، ولم ينشئه، عز وجل، لمجرد إظهار قدرته النافذة، على حد ما قرره المتكلمون المتأثرون بمقالة أهل الجبر، بل أنشأه، عز وجل، لتظهر آثار علمه وحكمته وقدرته جميعا، فسننه الكونية النافذة، وسننه الشرعية الواجبة، وما يجري بينها من التدافع، وتنوع خلقه تبعا لذلك إلى مؤمن وكافر، بر وفاجر .............. إلخ، كما تقدم من حكمة خلق المتضادات كل ذلك مما يتذرع به إلى إظهار كمال حكمة الرب، جل وعلا، في الكون المشهود، فكيف بما خفي عنا من حقيقة هذه الحكمة، فلم ندرك إلا طرفا من آثارها؟!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير