تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وجاء جواب الشرط: "يكن": على حد المضارعة مئنة من التجدد والاستمرار إذ المقدورات في عالم الشهادة متكاثرة متتالية، فيخلق هذا بكلمة كونية، ويفني ذاك بكلمة ثانية، ويرزق ثالثا بكلمة ثالثة، ويمنع رابعا بكلمة رابعة ........ ، فخلقه بين فضل وعدل كلماته الكونية: كن فيكون، وفي قيد الابتلاء بكلماته الشرعية: افعل ولا تفعل، فالأولى مئنة من قدرته، والثانية مئنة من حكمته، وبهما تجتمع في حق الرب، جل وعلا، أوصاف الكمال: فنفاذ قدرته من جلاله، وبلوغ حكمته من جماله، وبالجلال والجمال يكون الكمال كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.

وبعد بيان عموم المقادير: نص على أحد أفرادها على حد التخصيص: "وما ترزق يأتك"، فذلك من الخصوص بعد العموم، تنويها بشأنه، إذ هو شاغل معظم العباد عن ربهم، جل وعلا، فقد شغل معظم المكلفين بالقدر الكوني النافذ فيهم عن القدر الشرعي الواجب عليهم، فشغلوا بتحصيل أسباب الرزق عن الشغل بأسباب شكره، وإن كان الكون قد أقيم على سنن كونية مطردة، فلا يكون مسبَّب شرعي أو كوني إلا فرعا عن سببه، إلا أن تعليق القلب بالأسباب في كلا القدرين: الكوني والشرعي، يورث فاعله غرورا بل طغيانا، إذ وكل إلى نفسه، فأعجب بعمله، وظن أن له فيه الفضل الأول، فغفل عن أن الرب، جل وعلا، هو الذي قدره له، ويسر له أسبابه، وأعانه على مباشرتها بأن خلق فيه الهم والإرادة الجازمة، والطاقة الفاعلة، فكان الفعل على وفق ما قدر أزلا، فهو تأويل المقدور الأزلي في عالم الشهادة الوجودي، وهو مخلوق الرب العلي، ومفعول العبد بإرادته التي هي خلق الرب، جل وعلا، فهو خالق الفعل وفاعله، فكيف يكون لمسدد في أمر الدين أو الدنيا أن يعجب بعمله ويزهو بنفسه، وليس له من الأمر شيء إلا مباشرة السبب لتأويل قدر الرب، جل وعلا، في عالم الشهادة؟!، فما كان له أن يُحَصِّل ما حصل، ولو باشر من الأسباب ما باشر إلا أن يشاء الله، عز وجل، ذلك، وكم شاهدنا أناسا بذلوا من الأسباب لتحصيل فضيلة في الدين أو الدنيا، ولم يحصل لهم ما أرادوا إذ شاء الرب، جل وعلا، غير ما شاءوا، وليس معنى ذلك إهمال الأسباب إذ ذلك قدح في الشرع والعقل، وإنما هو نوع ترشيد لمباشرة المكلقين لها، فلا تتعلق بها قلوبهم على حد الاستقلال فيقعوا في الشرك، ولا يهملوها فيقعوا في صور مزرية من القدح في الشرع والنقص في العقل صارت محل تندر من حولهم بفساد أحوالهم.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[02 - 11 - 2009, 03:00 م]ـ

قال ابن القيم رحمه الله:

"وقال ابن وهب: أخبرنا عبد الرحمن بن سليمان عن عقيل عن عكرمة عن ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فسمع ناساً من أصحابه يذكرون القدر فقال: إِنَّكُمْ قَدْ أخَذْتُمْ فِى شُعْبَتَيْنِ بَعِيدَتِى الغَوْرِ، فِيهمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ"، ولقد أخرج يوماً كتاباً فقال: (هَذَا كِتَابٌ مِن الله الرَّحمن الرَّحيم فيه تَسْمِيَةُ أَهْل الجَنَّةِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وقَبَائِلهِمْ وَعَشائِرِهِمْ فَحَمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ لا يَنْقُصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ: فَرِيقٌ فِى الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ) ". اهـ

ص99.

فإن هذا الباب مما ضل فيه الأولون فإشكالية القدر: إشكالية متأصلة في الديانة النصرانية، ومما أثر عن عمر، رضي الله عنه، أنه خطب بالجابية، والجاثليق، (وهي: رتبة من رتب النصارى)، ماثل بين يديه، والترجمان يترجم فقال عمر: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فقال الجاثليق: إن الله لا يضل أحدا، فقال عمر: ما يقول؟ فقال الترجمان: لا شيء، ثم عاد في خطبته، فلما بلغ: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فقال الجاثليق: إن الله لا يضل أحدا، فقال عمر: ما يقول؟ فأخبره، فقال: كذبت يا عدو الله، ولولا عهدك لضربت عنقك، بل الله خلقك، والله أضلك، ثم الله يميتك، ثم يدخلك النار، إن شاء الله، ثم قال: «إن الله تعالى لما خلق آدم نثر ذريته، فكتب أهل الجنة وما هم عاملون، وأهل النار وما هم عاملون، ثم قال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه».

"الشريعة" للآجري، رحمه الله، ص173.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير