تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بل إن مقالة نفي القدر إنما سرت إلى القدرية والمعتزلة من نصارى زمانهم، وأول من أثرت عنه مقالة نفي القدر: معبد الجهني الذي أخذها من "سوسن" النصراني، على اختلاف في اسمه، الذي أسلم ثم تنصر كما ذكر ذلك الأوزاعي رحمه الله، والشاهد أنهم خاضوا معهم جدالا في أصول الدين غير مسترشدين بالوحي المنزل، كتابا وسنة، بل بمحض أقيستهم العقلية، فقاسوا أفعال الله، عز وجل، على أفعال عباده، قياس شمول فاسد، فإنه لا يتصور في عالم البشر أن يكتب أحدهم على الآخر شيئا، ثم يؤاخذه عليه، فتلك قاعدة قياسهم العقلي الذي أجروه على أفعال الله، عز وجل، فغلبوا جانب الحكمة في أفعاله على جانب القدرة، فأداهم ذلك إلى وصفه، عز وجل، بالجهل، فلا يعلم المقادير إلا بعد وقوعها، فيسجلها على عباده تسجيل المؤرخ الذي يدون الأحداث أولا بأول!، ومن قال بأنه يعلم قال بأنه لا يكتب، فمشيئة العباد لا تخضع لمشيئته الكونية النافذة، فيقع في كونه ما لا يريده كونا!، فلزمهم وصف الله، عز وجل، بالعجز!، وعلى النقيض: غلا الجبرية في الطرف الآخر: فغلبوا جانب القدرة على جانب الحكمة، فسلبوا العبد قدرته، أو جعلوها قدرة تقترن بالفعل اقتران العلامة بما تدل عليه، فأفعال العباد تقع عندها لا بها!، وهو قول أصحاب: "نظرية الكسب" التي لا يمكن، عند التحقيق، تصورها في الأذهان، فإما قدرة مؤثرة، وإما لا قدرة أصلا، فهي عند التحقيق محاولة غير ناجحة للتوسط بين مذهب أهل السنة ومذهب نفاة القدر أيا كانوا.

وأما أهل الإسلام من أهل السنة فلا إشكال عندهم في هذا الباب لأنهم يجمعون بين طرفي: القدرة والحكمة، فلا يغلبون طرفا على طرف، فالله، عز وجل، حكيم، يعطي الإيمان والطاعة للمؤمن فضلا، ويمنعهما الكافر والعاصي عدلا، لمصلحة ترجح مصلحة إيمانه أو طاعته، وهذا مقتضى حكمته، فإن كفر الكافر وعصيان العاصي، وإن كان غير مراد لله، عز وجل، شرعا، بدليل أمره بنقيضهما من الإيمان والطاعة وإن سبق في علم الله عز وجل أنه لا يؤمن ولا يطيع، إلا أنهما سبب لحصول مصلحة تفوق مصلحة إيمانه وطاعته، فمفسدة كفر إبليس ومعصية آدم، عليه السلام، وخروجه من الجنة، غير معتبرة في مقابل المصلحة التي حصلت بذلك، فلولا نقص الكفر ما عرف فضل الإيمان ولعطلت عبوديات التوبة والدعاء والصبر والجهاد .............. إلخ من المرادات الشرعية التي يحبها الله، عز وجل، فكان ذلك المكروه في مقابل تلك المحبوبات غير معتبر، وتلك عين الحكمة الإلهية. فلا تعارض حكمته بقدرته، فصفاته العلية لا تتعارض إلا في أذهان سقيمة لم تستضئ بنور الوحي.

وإخراج الكتاب في سياق كهذا محمول على معناه المجازي إذ لا يتصور أن يحمل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كتابين قد أجمل فيهما أهل الجنة وأهل النار جميعا من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة.

وقد يقال بأنه لا مجاز، على ما اطرد من كلام مانعي المجاز في نصوص الشرع، إذ قرينة السياق، وهي قرينة لفظية رافعة لاحتمال المجاز، إذ لو كان الكتاب على حد الحقيقة لعلم المجتمعون آنذاك مصائرهم، بل لورثوه لمن يأتي بعدهم، إذ يبعد ألا تتوافر الهمم لحفظ كتاب كهذا فيه مصاير كل البشر، ولازم ذلك بطلان التكليف وتعطيل الشرائع إذ قد ساغ لكل مؤمن أن يحتج بما علمه من الكتاب الأول على دخوله الجنة فاستغنى عن الامتثال لأحكام الشريعة، فقد صار العلم المفقود في حقه: موجودا، وساغ لكل كافر أن يحتج به، أيضا، فلا ينفعه التكليف إذ هو من أهل النار وإن آمن وعمل صالحا لسبق ذلك في الكتاب الأول، فذلك مما يصح للعباد أن يحتجوا به على ربهم، عز وجل، إذ سر الابتلاء: عدم العلم بالمآل، لئلا يحتج به أحد، فلو احتج به قيل له: احتجاجك مردود إذ هو احتجاج بمعدوم غير معلوم، فلما يأت تأويله بعد بدخول أهل الجنة: الجنة، ودخول أهل النار: النار، فالأولى الاشتغال بتحصيل أسباب النجاة جريا على السنة الكونية القاضية ببذل السبب استجلابا لمسبَّبه الصادر منه، فالعمل، على كل حال، ولو على خلاف الشرع المنزل في حق الكافر، حتم لازم لوقوع المعلوم الأزلي العدمي، فما علم أزلا وكتب في اللوح سلفا: أمر معدوم لا يأت تأويله إلا بمباشرة الأسباب في

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير