عالم الشهادة، وذلك أمر مطرد في الشرعيات والكونيات، فلكل عبادة سبب وجوب، ولكل قدر كوني سبب وجود، وبمباشرتها تظهر الحكمة الإلهية في جريان الأقدار وفق ما أجرى، عز وجل، من السنن، وبمباشرتها يصح التكليف الذي يتعلق به الثواب والعقاب، وبمباشرتها يتوصل إلى تأويل ما قد قدر أزلا من دخول فئام الجنة بفضل الرب، جل وعلا، ودخول فئام أخرى النار بعدله، فتظهر قدرة الرب، جل وعلا، وحكمته، في إنفاذ مقدوره الأزلي على الوجه الذي يحصب به تمام حمده، فبعد فصل القضاء وسكنى أهل كل دار دارهم: (تَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فيسبحون الرب، جل وعلا، أن ظهرت آثار قدرته وحكمته في عباده، فقضى بالحق بينهم، فحمده أهل الموقف جميعا مؤمنهم وكافرهم، ولذلك بني فعل القول لما لم يسم فاعله مئنة من العموم فلم تختص بالحمد طائفة دون أخرى، بل الكل حامد للرب، جل وعلا، أوصاف كماله التي أظهرها في قضائه فأثاب فضلا من وصف جماله، وعاقب عدلا من وصف جلاله، وقدر فنفذ المقدور كما شاء: جلالا، وكان على سنن الحكمة البالغة جاريا: جمالا، فاجتمع له، عز وجل، شقا الكمال: الجلال والجمال، فاستحق أن تسبح الملائكة بحمده، وأن يحمده أهل الموقف كلهم أجمعون، فالحمد لله أولا وآخرا، ظاهرا وباطنا.
وإليه أشار الألوسي، رحمه الله، بقوله:
"وقيل: {قِيلَ} دون قالوا لتعينهم وتعظيمهم، وجوز كون القائل جميع العباد منعمهم ومعذبهم؛ وكأنه أريد أن الحمد من عموم الخلق المقضي بينهم هنا إشارة إلى التمام وفصل الخصام كما يقوله المنصرفون من مجلس حكومة ونحوها، فيحمده المؤمنون لظهور حقهم وغيرهم لعدله واستراحتهم من انتظار الفصل، ففي بعض الآثار أنه يطول الوقوف في المحشر على العباد حتى إن أحدهم ليقول: رب أرحني ولو إلى النار، وقيل: إنهم يحمدونه إظهاراً للرضا والتسليم وقال ابن عطية: هذا الحمد ختم للأمر يقال عند انتهاء فصل القضاء أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه، ومن هذه الآية جعلت {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} خاتمة المجالس في العلم، هذا والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين". اهـ
ومما يرجح أن ذينك الكتابين على غير الوجه المتبادر إلى الذهن لقرينة السياق أيضا:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ فَقُلْنَا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا فَقَالَ أَصْحَابُهُ فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَقَالَ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا ثُمَّ قَالَ فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنْ الْعِبَادِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
فالنبذ باليد تمثيل أريد به تحقيق صورة الأمر في ذهن المخاطب فالأمر قد فرغ منه، كما يجري في عالم الشهادة من النبذ على حد النضح، أو تقليب الأكف كناية عن نهاية الأمر ونفاذه.
وقد ذكر الذهبي، رحمه الله، في ترجمة "عبد الوهاب بن همام الصنعاني" في "ميزان الاعتدال"، كما حشى بذلك بعض الفضلاء المعاصرين على "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (4/ 328، 329)، ذكر الذهبي في تلك الترجمة رواية له من طريق ابن عدي:
"قال ابن عدي: حدثنا محمد بن حمدون بن خالد، حدثني محمد بن علي بن سفيان النجار، حدثنا عبد الوهاب أخو عبد الرزاق، (وهو صاحب الترجمة: أخو: عبد الرزاق المحدث المعروف صاحب "المصنف")، أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وفي يده كتابان بتسمية أهل الجنة وتسمية أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم.
تابعه عبد الله بن ميمون بن القداح، عن عبيد الله".
ثم ذيل بقوله: "قلت: هو حديث منكر جدا، ويقضي أن يكون زنة الكتابين عدة قناطير! ".
وتعقبه الحافظ، رحمه الله، في "لسان الميزان" قائلا:
"وليس ما قاله من زنة الكتابين بلازم بل هو معجزة عظيمة وقد أخرج الترمذي لهذا المتن شاهداً". اهـ
وقد يشهد لذلك أن الكتاب كما ورد في الحديث مجمل، ولك أن تقيسه على ما عرف في زماننا من الوسائط المدمجة كالأقراص الصلبة والمرنة، فإن القرص الصلب قد يكون بحجم كف اليد أو أصغر كما في الأجيال الجديدة، وهو مع ذلك يتسع لكم من البيانات يصعب حصره، فإذا كان المخلوق قد صنع ذلك بعلمه وقدرته، مع ما فيهما من النقص والقصور، أفلا يقدر الرب، جل وعلا، أن يجري مثل ذلك على يد نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم معجزة، ولكل قول وجه، ولكن القول الأول، والله أعلم، أرجح من جهة السياق ومن جهة القرينة العقلية المعتبرة.
والله أعلى وأعلم.
¥