اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) تحرزا من الوقوع فيه، إذ قد قامت الحاجة إلى ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما قرر الأصوليون أيضا.
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ): فالإيجاد والإعدام لا يكونان، أيضا، إلا بتقدير سابق وقدرة نافذة على إيجاد الموجود وإعدام المعدوم، فالتذييل جار على ما تقدم من التذييل بالعلة المؤكدة على حد الفصل لشبه كمال الاتصال.
وقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)
فابتداء الخلق من الضعف الذي يؤول إلى القوة بمقتضى السنة الكونية المحكمة، ولا تكون سنة على هذا الحد من الإتقان إلا بعلم وقدرة، وقد جاء عموم: "يخلق ما يشاء" بعد خصوص خلق الإنسان، مئنة من التوكيد بالإطناب بذكر العام بعد الخاص، ففيه توكيد على علم الرب: علم التقدير لكل مخلوق، وقدرة الرب: قدرة التنفيذ بإيجاد المخلوق المقدر في عالم الغيب وفق ما قدره الرب، جل وعلا، فالخلق في: "يخلق": يصح حمله على التقدير فيكون من العلم، و: يصح حمله على التنفيذ فيكون من القدرة، ولذلك ذيل بوصفي العلم السابق والقدرة اللاحقة، إذ لفظ الخلق في: "يخلق" يحتملهما، على التفصيل المتقدم، فالآية قد سيقت في معرض الاستدلال لعموم ربوبية الله، عز وجل، ربوبية: الإيجاد للأجساد على حد الإطناب بذكر الأطوار التي تمر بها فمن ضعف إلى قوة إلى ضعف، وتلك سنة جارية، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ"، فيظهر بذلك إحكام الصنعة الإلهية من وجه، ويظهر كمال ذات ووصف الرب، جل وعلا، من وجه آخر، إذ لا يعتريه ما يعتري خلقه من الضعف والفناء، فهو الموصوف بكمال الذات والصفات أزلا وأبدا.
وعلم التقدير: وصف ذاتي لا تعلق له بالمشيئة من أي وجه، إذ هو أزلي بأزلية الذات.
وتوحيد الرب، جل وعلا، بأفعال العباد، وعلم الإحاطة محصٍ لها على حد التفصيل، كما في:
قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ):
فقد جاء ذلك في سياق ابتلاء الملائكة بعلم الأسماء الذي اختص به آدم عليه السلام، فنزه الملائكة الرب، جل وعلا، وأثبتوا له العلم المحيط والحكمة البالغة في اختصاص آدم عليه السلام بعلم تلك الأسماء، فناسب ذلك الابتلاء وصف الحكمة، إذ الابتلاء مظهر لآثار حكمة الرب، جل وعلا، في كونه.
وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
فذلك في معرض البيان الشرعي الذي يتعلق به التكليف، فهو من جنس الابتلاء بالشرع، على حد إفراده جل وعلا بالألوهية وصفا والعبودية فعلا، فهو الذي يتذرع به إلى إيقاع المقدور الأزلي: سعادة أو شقاوة، إذ بتيسير أسباب السعادة يكون العبد أهلا لنيل الثواب، وبتيسير أسباب ضدها من الشقاوة يكون العبد أهلا لتوقيع العقاب، على مقتضى سنة الباري، عز وجل، في كونه، بتحصيل المسبَّبات بمباشرة أسبابها، فمن باشر أسباب السعادة صار من أهلها، ومن باشر أسباب الشقاوة صار من أهلها، ولا يكون ذلك إلا بإقدار الرب، جل وعلا، العبد على مباشرتها، فلن يصدر عن العبد فعل أو ترك موافق أو مخالف للقدر الشرعي الحاكم الذي به يكون الابتلاء، إلا إذا شاء الرب، جل وعلا، ذلك بمقتضى القدر الشرعي النافذ الذي به يكون الإيجاد.
¥