تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي سورة النور تكرر التذييل بـ: " وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " في ثلاثة مواضع:

في قوله تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

فقد جاء بعد تكليف شرعي بإحسان الظن بالمؤمنين لا سيما إن كانوا من أهل الفضل، فدلالة: "لولا" في هذا السياق: تحضيضية على حد الإيجاب، فناسب ذلك اقتران الحكمة بالابتلاء بالكلمات الشرعيات، اقترانها بالعلم المحيط بأفعال العباد، فإذا وقعت إظهارا لآثار حكمة الرب، جل وعلا، في ابتلاء المكلفين بالأمر والنهي، فجاءت على وفق ما قدر الرب، جل وعلا، في الأزل تعلق بها العلم الثاني المحيط.

وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

وهو أيضا سياق تكليف شرعي إظهارا للحكمة، فيحيط به العلم الثاني: علم الإحاطة على بعد تقديره بالعلم الأول.

وفي قوله تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ):

فتلك الآية، أيضا، في معرض بيان حكم شرعي يقع به الابتلاء، فناسب ذلك تعلقه بالحكمة فهو من علم الإحاطة بأفعال المكلفين التي يتعلق بها الثواب أو العقاب، فهو إحصاء لأفعال العباد التكليفية، وإن كان علم الله، عز وجل، يعم أفعالهم الشرعية وأفعاله الكونية فيهم بإحياء أو إماتة .......... إلخ، فهو، كما تقدم، علم الربوبية المختص بتقديراته الكونية الأزلية وأفعاله الكونية الوجودية الكائنة بمقتضى الأمر الكوني، بخلاف العلم بأفعال العباد، فهو علم الألوهية بأفعال العباد طاعة أو معصية للأمر الشرعي.

فعلم الإحاطة متعلق بخطاب التكليف المتعلق بالإرادة الشرعية الحاكمة، وعلم التقدير متعلق بخطاب التكوين المتعلق بالإرادة الكونية النافذة.

وقوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)

فذلك أيضا في معرض الابتلاء، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا باتباع الوحي المنزل، فيكون علم التقدير قد سبق له بالحسنى، ويكون علم الإحاطة محصيا لعلمه الذي هو تأويل ما سبق له من المقدور الجاري على سنن الشرع، فيكون ذلك سببا مشهودا في بلوغه ما قدره الله، عز وجل، له من الكرامة، فهو عليم به أولا وآخرا، عليم به حال العدم، وحال الوجود، وهو حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه: كونا وشرعا، فحيث كان الابتلاء بالشرع كانت حكمته، جل، إذ أحكامه أعدل الأحكام وأنفعها للمكلفين فبها تظهر آثار حكمته، وبها تستجلب المصالح العظيمة للبشر، فالشرع رحمة لهم، لو تدبروا، إذ هو شرع من قد استغنى عنهم، فلا يشرع الأحكام ولا يسن القوانين على حد ما نراه في عالم الشهادة من سياسة الجور التي يتبعها الملوك والسلاطين، فإنهم لافتقارهم إلى الرياسة والوجاهة، يسنون من القوانين ما يحفظ الملك لهم ولمن يهمهم أمره من قريب أو حليف، ويعدلون في الدساتير الأرضية بما يلائم ذلك، فالتشريع الأرضي مئنة من افتقار صاحبه إليه، إذ لا يشرع إلا ما يسد فاقته، ويجبر نقصه الجبلي، بخلاف التشريع السماوي، فإنه من لدن الغني الحميد الذي لا أرب له فيما أيدي عباده ليسالهم إياه على حد الافتقار كما قال أخبث يهود: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، فذلك فرقان عظيم في هذا الباب:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير