تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فوصف الخالق الحكيم في أقداره الكونية والشرعية، الغني عن عباده، فلا يشرع إلا ما تظهر به آثار علمه المحيط وحكمته الباهرة، ولا يشرع لهم إلا ما فيه نفعهم في الحال والمآل، فحيث كان شرع الباري عز وجل: كانت المصلحة الشرعية مراد الرب، جل وعلا، الأول، والمصلحة الدنيوية التي تأتي تبعا، ولا يتصور وقوع تعارض بين شرع ومصلحة دنيوية معتبرة، فخرج بقيد: معتبرة، ما تتوهمه العقول القاصرة مصلحة وهو عند التأمل: عين المفسدة، وإنما خفي على على العقل وجه المفسدة لقصوره عن إدراك المآلات فنظرته نظرة قاصرة تسعى إلى تحصيل المرادات العاجلة، ولو ترتب عليها بعد ذلك فساد أعظم، وذلك من فساد التصور الذي يجعل صاحبه يباشر أسباب تحصيل الملذات العاجلة، ولو كان فيها هلاكه آجلا.

وقوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).

فتلك الحجة الشرعية المتعلقة بالابتلاء الجاري على سنن الحكمة الشرعية فبها يكون الابتلاء الذي به يتعلق علم إحاطة الرب، عز وجل، بأفعال عباده امتثالا أو مخالفة لمقتضى تلك الحكمة، ومن جهة أخرى جرى قوله: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ): مجرى التعليل لما تقدمه، فحسن الفصل بينهما لشبه كمال الاتصال، فعلة رفع الأنبياء، عليهم السلام، وتأييدهم بالحجج النقلية والعقلية والكونية الدامغة، وعلة التفاضل بين البشر هو ما يصطفي به الرب، عز وجل، بعضا دون بعض، بمقتضى علمه الأزلي فيهم، فقد علم حال المحال: صلاحا أو فسادا، وحدها على تلك المقادير، فلكل عقل وقلب يباين عقل وقلب غيره، فجاء تأويل المقدور على وفق المسطور في اللوح المحفوظ، فهذا عقله صحيح القياس وقلبه صحيح الإرادة بمقتضى فضل الرب، جل وعلا، وذاك على خلاف ذلك فعقله وقلبه على حد الفساد، بمقتضى عدل الرب، جل وعلا، فاقتضت الحكمة ألا يسوي بين المحلين لتباينهما فللأول من التوفيق ما ليس للثاني، فلو سوى بينهما لكان ذلك من السفه والظلم الذي يتولد من نقص الحكمة، وذلك معنى منتف في حق عقلاء البشر، فتنزيه الباري، عز وجل، عنه ثابت من باب أولى، فالتذييل بوصفي العلم والحكمة جار مجرى الاحتراس لئلا يظن ظان أن الاصطفاء ورفع الدرجات كائن بمحض المشيئة والقدرة، فيصطفي من يشاء، وإن لم يكن أهلا للاصطفاء، ويضع الخير في شر المحال ...... إلخ مما جرى على ألسنة فئام من المتكلمين النافين للعلل والأسباب، فالأمر عندهم: محض قدرة نافذة، ولو جرت على غير سنن الحكمة، وذلك مدخل إلى مقالة أهل الجبر الذين غلوا في باب القدرة الكونية وجفوا في باب الحكمة الشرعية.

والصحيح أن كل أحداث هذا الكون صادرة من القدرة والحكمة الربانية بمقتضى الكلمات الكونية، فأفعاله، عز وجل، فرع عن صفاته الفاعلة، وصفاته على حد الكمال أزلا وأبدا فكذلك ما تفرع عنها من الأفعال، فتقع المفعولات في الكون بما تظهر به آثار علم وحكمة وقدرة الرب، جل وعلا، إذ تقع على وفق ما قدر فهي على حد الإتقان والإحكام، فلا يعتريه، جل وعلا، ما يعتري الصناع من البشر، فمهما بلغ إتقانهم فلا بد من هامش خطأ لا يسلم منه بشر، وتنفذ لا محالة إذا شاء الرب، جل وعلا، نفاذها، ولو اجتمع أهل الأرض على أن يمنعوها.

وقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)

فذلك من العموم المؤكد بـ: "من" التي تفيد التنصيص على العموم في سياق النفي، فتسلط النفي على النكرة: "دابة" فهي: نص في العموم ابتداء، ثم جاء التنصيص على العموم بـ: "من" إمعانا في التوكيد والتقرير، فـ: "ما من دابة" أي دابة: أرضية كانت أو جوية، زاحفة على البطون كانت أو سائرة على الأقدام أو طائرة بالأجنحة، إلا وسلك الأمة ينتظمها، فهي على هيئة الاجتماع، وإن لم يكن لها كمال الإدراك الذي يتعلق به التكليف، فيجري على كل أمة من السنن والأحكام ما يلائمها، وبقدر التعقيد في الخلق والرقي في العقل يكون التدقيق والإحكام في السنن التي تحكم الأمة فليست السنن الحاكمة للإنسان

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير