تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فمنشأ الضلال عند أصحاب الأهواء جميعا واحد، وهو تقديم قياسهم أو ذوقهم على نص الشارع، عز وجل، فما استحسنه العقل أو التذ به الذوق من علم أو عمل فهو المقدم، ولو كان على خلاف رسم النبوة، فلا يعارضها إلا قياس فاسد الاعتبار أو ذوق فاسد الشعور فلم يعد العقل بمخالفته الوحي صريحا بل عرض له الاختلاط، ولم يعد الذوق بمخالفته الوحي صحيحا بل عرض له فساد الطبع كمن اعتاد غذاء خبيثا مفسدا للبدن والمزاج فصارت لذته فيه لا فيما سواه من الأغذية الطيبة النافعة، فالعيب في حسه الفاسد لا في الطيب النافع.

ويقول في موضع تال:

"وأما التدين بذلك فهو أعظم من استحلاله وهؤلاء المتدينون ما يكادون يتدينون بنفس فعل الفاحشة الكبرى ولكن بمقدماتها من النظر والتلذذ به والمباشرة والعشق للنسوان الأجانب والصبيان ويزعمون أن ذلك يصفي نفوسهم وأرواحهم ويرقيهم إلى الدرجات العالية وفيهم من يزعم أنه يخاطب من تلك الصورة وتتنزل عليه أسرار ومعارف وفيهم من يترقى لغير ذلك فيقول إنه يتجلى له فيها الحقائق وربما زعم أن الله يحل فيها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وقد يسجدون لها". اهـ

"الاستقامة"، ص443.

والعشق الحلال قد يكون وسيلة نافعة لتصفية النفس من العلائق المحرمة، فهو مما يرقق الطبع إن تعاطاه الإنسان على حد الاعتدال، فلا تفريط يصير صاحبه إلى غلظة وجفاء في الطبع برسم الحشمة والهيبة وذلك ما يصح استعماله مع الرجال لا مع الأهل والولد، فالرجل العاقل في بيته كالطفل مرحا ومودة فإذا خرج كان رجلا بين الرجال، كما أثر عن الفاروق، رضي الله عنه، نحوه، ولابن حزم، رحمه الله، إشارة لطيفة إلى مسالك أمراء بني أمية في دورهم الثاني في الجزيرة الأندلسية المفقودة، مع أهلهم وأولادهم فذلك مظنة الانبساط فإذا خرجوا للناس كانوا على رسم الهيبة والحشمة الملوكية فلكل مقام مقال، فلا يستعمل العاقل أخلاق الجلال في مواضع الجمال، ولا يستعمل أخلاق الجمال في مواضع الجلال، فذلك مظنة فساد الأحوال، ولك أن تتخيل رجلا يباشر وظائفه خارج البيت بأخلاق البيت، أو يعكس الأمر فيستعمل أخلاق الوظائف مع ما فيها من التحفظ والحشمة والقسوة في أحيان كثيرة، يستعملها في البيت!.

ولا إفراط يصير صاحبه إلى فساد واختلاط في العقل، وخلاعة في الطبع كما يغلب على من أفرط في العشق فإن عزيمته تنحل وهمته تنتقض فتصير على حد الدناءة طالبة للذة وهمية توالي وتعادي عليها فإذا نالتها رضيت وإن صرفها ذلك عما هو أنفع لها في أمر الدين أو الدنيا، وإن حرمتها سخطت ولو كان في ذلك صلاحها بالتفاتها إلى ما هو أولى بالمباشرة.

وفي زماننا بلغ الاحتفاء حد الترويج العلني للفواحش صراحة دون تكنية، بل عقدت بعض النساء لواء الجهاد في سبيل نشرها علنا في وسائل الإعلام فذلك منتهى أملها!، فلم يعد الأمر استتارا بفاحشة أو حتى استعلانا بها في النفس، بل صار دعوة عامة إلى ممارستها علانية، على حد ما تقدم من إفساد المترفين في قراهم فشؤمه يطال حتى عجائز المؤمنات في مساجد بيوتهن، وفي أزمنة الضعف يظهر من الزندقة والانحلال ما لا يظهر في أزمنة القوة التي تستخفي فيها الجرذان في جحورها. ولا دين يعصم ولا سيف سلطان يردع فأنى لأولئك الكف عن الإفساد؟!. بل إن إفسادهم هو تأويل سنة التدافع الكونية، فإن أهل الحق قد سكتوا مختارين أو أسكتوا مجبورين، فتنادى أهل الباطل وتداعوا لنصرة باطلهم على حد قوله تعالى: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ). والمحل لا يقبل الاشتغال بالضدين، فإن زال أحدهما أو ضعف، وجد الآخر أو قوي.

يقول ابن القيم رحمه الله: "فيقال: الله أكبر على هؤلاء الملاحدة أعداء الله حقاً الذين ما قدروا الله حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا نزهوه عما لا يليق به، وبغضوه إلى عباده وبغضوهم إليه سبحانه، وأساءوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم، وهؤلاء خصماءُ الله حقاً الذين جاء فيهم الحديث: (يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ: أَيْنَ خُصَمَاءُ الله؟ فَيُؤمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ) ". اهـ

ص108.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير