تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهم خصماء الله، عز وجل، إذ قد عارضوا شرعه بقدره، ومثلهم الإبليسية الذين عارضوا القدر بقياس عقولهم، وكل فساد لبني آدم إنما يكون من الطغيان التي يعتري الطاعن أو المعارض فيظن في نفسه وقياسه الكمال ويظن في ربه وقدره النقصان فيقدم قياس عقله على حكم ربه، عز وجل، وتلك معضلة كل من أوتي ذكاء كونيا ولم يتأيد بزكاء الوحي الشرعي.

ومعطلة الأمر الشرعي سواء أكانوا إبليسية أم مشركية أسوأ حالا من معطلة الأمر الكوني من القدرية النفاة، فإن النفاة وإن جفوا في حق القدرة الربانية إلا أنهم لم يتحللوا من قيد الشرعة الإلهية محل التكليف بخلاف من تحلل من الشرع لغلوه في حق القدرة الربانية، وأكمل الطرائق: طريقة المرسلين الذين جمعوا بين نوعي الحكم: الكوني النافذ والشرعي الحاكم فاستعملوا لكل ما يلائمه، فردوا الكوني بالكوني أو الشرعي الرافع، فإن لم يكن رفع فصبر لحكم الرب، جل وعلا، على وزان قوله تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا)، وإن كان عموم المضاف إلى المحلى بـ: "أل" يعم جنس الأحكام الربانية: الكونية والشرعية، فإن الصبر يستعمل لكل، فصبر على امتثال أمر الشرع، وصبر على احتمال أمر الكون، ولكل ما يلائمه من أجناس العبودية، فإن للتكليف صبرا به يوقع العبد مراد الرب، جل وعلا، منه، بإظهار الخضوع الشرعي الاختياري الذي يرتقي به من درجة الكائن المضطر إلى درجة العابد المختار، ولن يكون له اختيار يخالف ما قضى الرب، جل وعلا، أزلا فسطر في اللوح قولا واحدا لا يقبل المحو، ولأمر الكون من جنس الصبر ما يهون مرارته الآنية، بالنظر في مآلاته، فمن صبر ابتداء نبت انتهاء، ومن تحمل مر الدواء العاجل نال لذة الشفاء الآجل، فمرارة المبتدى ذريعة إلى حلاوة المنتهى وإنما الأمور بخواتيمها.

ومرد الأمر إلى إحسان الظن بالرب، جل وعلا، وهو من أدق العبادات القلبية، فلا نصيب لكثير منا فيها، إذ ترد الوساوس حال النوازل فتسكر العقل وتسد عليه منافذ الفهم فلا يبصر الحقائق كما هي، فيرى النازلة بعين الجزع فلا يدرك من حكم الرب، جل وعلا، منها ما يدركه بعد ارتفاعها، فكل المكلفين في أزمنة العافية فقهاء، ولا يصدق عمله قوله في أزمنة الابتلاء إلا قليل ممن امتن الباري، عز وجل، عليهم بالثبات، فعلم ما في قلوبهم فأثابهم فتحا قريبا فعما قريب تذهب الشدة وتبتل عروق الصبر واليقين ويثبت الأجر إن شاء الله، والباب: باب عمل لا قول، فإن العلم له مبتدى يصحح التصور لتعمل آلة القلب في تحصيل مراضي الرب، جل وعلا، فتباشر من أجناس العبودية أنواعا لطيفة دقيقة، لا يمكن للسان حدها وإن ظهرت آثارها عليه حمدا واسترجاعا.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[31 - 12 - 2009, 09:41 ص]ـ

ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان فرق القدرية فقال:

"وسمعته، (أي: ابن تيمية رحمه الله)، يقول: القدرية المذمومون فى السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاث: نفاته، وهم القدرية المجوسية، والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]، وهم القدرية الشركية والمخاصمون به للرب سبحانه وهم أعداءُ الله وخصومه وهم القدرية الإبليسية. وشيخهم إبليس، وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِى} [الحجر: 39]، ولم يعترف بالذنب يَبُوءُ به كما اعترف به آدم، فمن أقر بالذنب وباءَ به ونزّّه ربه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس". اهـ

ص108.

فالمجوسية: نفوا قدرة الرب، عز وجل، على خلق أفعال العباد، فشابهوا الثنوية من هذا الوجه بل زادوا عليهم، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع عدة، فأثبتوا خالقين بعدد الفاعلين، والصحيح أنهم فاعلون قد خلق الله، عز وجل، أعيانهم وإراداتهم الباطنة وأفعالهم الظاهرة، فلا يعجزه شيء من ذلك، إذ كل خاضع لقضائه الكوني النافذ، وإن خرج من خرج عن قضائه الشرعي الحاكم، فما ظلم إلا نفسه، وما ضر ربه ولا قهره، بل لو شاء، عز وجل، لأكرمه بالطاعة فضلا، ولكنه شاء له الإهانة فابتلاه بالمعصية عدلا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير