تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والمشركية: من احتج بالقضاء الكوني على القضاء الشرعي فعارض الشرع بالكون تذرعا بذلك إلى إبطال الأمر والنهي.

والإبليسية: من عارض الشرع بمعقوله فقاس في مقابل النص، وقدم معقوله على منطوق الوحي المنزل سواء أكان ذلك في خبر علمي أم حكم عملي.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والشركية شر من القدرية النفاة، لأن النفاة إنما نفوه تنزيهاً للرب تعالي وتعظيماً له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب، ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه ألبتة بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه وحوله ونحو ذلك.

كما يحكى عن بعض الجبرية أنه حضر مجلس بعض الولاة فأتى بطرّار، (أي: سارق يشق الأكمام أو الجيوب وهو ما يعرف في عصرنا بـ: "النشال")، أحول فقال له الوالي: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر - يعني سوطا ً- فقال له بعض الحاضرين ممن ينفى الجبر: بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطاً: خمسة عشر لطره، ومثلها لحوله. فقال الجبري: كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك، فبهت الجبري". اهـ

ص108، 109.

فإن الجبري يلزمه أن يسوي بين القدر الكوني بالحول، والقدر الشرعي بارتكاب المحظور، فالأول لا يتعلق به ثواب أو عقاب لعدم تعلقه بفعل من قام به، فإنه مقدور كوني لا يتعلق بأفعال المكلفين، فلا يلام الإنسان شرعا لأنه قصير أو سمين أو أحول أو أعرج ............ إلخ من سائر الابتلاءات الكونية التي يبتلي بها الرب، جل وعلا، بعض عباده ليستخرج منهم عبودية الصبر، ويستخرج من غيرهم عبودية الشكر، وتظهر آثار قدرته وحكمته في عباده فتنويع المقدورات كما وكيفا، على حد يلائم حال كل مبتلى، وتظهر به من آثار حكمة الرب، جل وعلا، ما يفوق فساده في نفسه، فليس الفساد في فعل من أوجده، بل هو كائن فيه بقدرة من كَوَّنه فالشر في المقدور لا في القدر، فتظهر بذلك من آثار حكمة الرب، جل وعلا، ما به يتعرف العبيد على ربهم، عز وجل، بوصف حكمته البالغة، كما يظهر من قدرته على تنويع الإيجاد ما به يتعرف العبيد على ربهم، تبارك وتعالى، بوصف قدرته النافذة، فهما، كما تقدم مرارا، شقا الربوبية، فغيرهما لهما تابع، فالرب أول ما يوصف به: كمال الملك بالقدرة وكمال التدبير بالحكمة، فلا تصدر أفعاله إلا عنهما، خلاف من جفا في القدرة وغلا في الحكمة من نفاة القدر، فالرب، عندهم حكيم عاجز عن خلق أفعال عباده، لم يختص أحدا بمزيد هداية فضلا، وآخر بمزيد غواية عدلا، بل أعطى الصديق والزنديق، على حد سواء!، ثم تركهم وشأنهم فلا سلطان له عليهم بالتكوين النافذ، وإنما سلطانه عليهم الاقتراح بالتشريع الحاكم، فجعلوه كآحاد البشر، لا يملك هداية أو إضلالا، فلا يوفق ولا يلهم، وإنما يدل ويرشد كسائر الأنبياء عليهم السلام، والمصلحين من أهل النصح والديانة، وهل ذلك إلا عين التشبيه بالخلق، وهم ما زعموا النفي في باب الصفات إلا فرارا منه، فوقعوا في باب القدر في عين ما فروا منه في باب الصفات، فلم يثبتوا للرب جل وعلا: هداية الإلهام والتوفيق التي لا تكون إلا له على حد القصر الحقيقي، فلا ادعاء فيه إذ ذلك مما استأثر به، ففعل الرب بالتكوين والتدبير في كونه: أخص صفات ربوبيته كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

وخلاف من جفا في الحكمة وغلا في القدرة، فجعل الأفعال الاختيارية والاضطرارية على حد سواء فـ: مرض ومات كونا، كصلى وصام شرعا، وتلك تسوية بين متباينين، فكما أن الأولين فرقوا بين متماثلين فنفوا في الصفات وشبهوا في الأفعال، إذ هم مشبهة الأفعال الإلهية بالأفعال البشرية، فإن هؤلاء قد عكسوا فسووا بين المختلفين في أفعال المكلفين فاستوى عندهم الكوني الاضطراري الذي لا يتعلق به تكليف، والشرعي الاختياري محط الابتلاء فيتعلق به التكليف، فكلٌ عندهم على حد التكوين النافذ، وهذا صحيح من وجه إذ لا يخرج شيء من أفعال العباد عن فعل الرب، جل وعلا، بالتكوين، ولكن العباد يؤثرون في إيجاد الفعل الشرعي بإرادة مؤثرة مخلوقة للرب المكون، جل وعلا، بكلماته الكونية التافذة، فهي له مخلوقة ولهم وصف مؤثر في إيجاد أفعالهم المقدورة، فيتعلق بها التكليف وما ينبني عليه من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير