تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثواب أو عقاب، فالجهة من هذا الوجه التكليفي منفكة، فلا يسوى بين اختياري واضطراري، بخلاف جهة التكوين، فهي غير منفكة إذ كل قد خلق بالكلمات الكونية النافذة، وإذا سوي بين الاضطرار والاختيار: بطل الابتلاء فصار كل على حد سواء، وهو ما ألزم به ذلك الحاضر ذلك الجبري، إذ كيف يضرب على ابتلاء كوني، وهو عند الجبري غير مؤاخذ بالفعل الشرعي بالكف عن السرقة الذي يتعلق به التكليف فيصير فاعله أهلا للثواب أو العقاب؟!.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وأما القدرية الإبليسية والشركية فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدو لله ورسله، لا يقر بأمر ولا نهي، وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال الله فيهم: {سَيَقُولُ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتّىَ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] ". اهـ

ص109.

وذلك أمر بدهي، إذ قد تساوى عندهم الأمران: الكوني النافذ والشرعي الحاكم، وزادوا على ذلك أن سووا بين الإرادة والمحبة فكل مراد كوني محبوب شرعي، ومن المرادات الكونية قبائخ ومعايب، وكلها عندهم مدائح ومحامد، إذ قد وافق العبد إرادة الرب، فأي توفيق أعظم من ذلك؟!، وهو، كما تقدم مرارا، إطلاق في موضع يلزم فيه التقييد، فالعبد لا يمدح إذا وافق الإرادة مطلقة، وإنما يمدح إذا وافق الإرادة الشرعية متعلق رضا الرب، جل وعلا، فهي التي شرعها على ألسنة رسله، عليهم السلام، فالحمد إنما يكون بداهة على أمر اختياري سعى المكلف في تحصيله، فاستحق الثواب على ذلك، فتلك مسلمة عقلية في كل أمر كوني أو شرعي، فالعامل إنما يستحق الأجر على ما يعمله، فيباشر من أسبابه ما ينجزه، بخلاف ما لا عمل له فيه، فإنه لا يستحق أجرا عليه، فإذا سقى الزرع: استحق أجر السقاية إذ له فيها أثر، بخلاف ما لو سقته السماء فلا أجر له، إذ لم يبذل سببا ولم يكابد مشقة يستحق بها العوض.

والشاهد أنهم لما سووا بين الأمرين: صارت كل أفعال المكلف عندهم اضطرارية من وجه، فذلك انسلاخ من الديانة باسقاط التكليف، محبوبة للرب، جل وعلا، إذ أراد وقوعها والإرادة والمحبة عندهم متلازمان، فيستوي الحسن والقبيح لتعلقهما بالإرادة الكونية من جهة واحدة، مع انفكاكها حال تعلقهما بالإرادة الشرعية، إذ الحسن مطلوب الفعل، والقبيح مطلوب الترك، فالتسوية بينهما تسوية بين متضادين، لازمها، إبطال الشرع، بل ذلك ما وقع بالفعل من كثير من متأخريهم، فصار شهود الحقيقة الكونية وإهمال الحقيقة الشرعية: علامة ولاية! فالولي يستبيح من المحارم ويترك من الواجبات بقدر ولايته وتراجمهم طافحة بتلك المخازي التي سطرت برسم الكرامة فكلما كانت المخالفة للشرع أعظم وأفحش كان الولي أمكن وأرسخ في باب الولاية بل لعله لا يرتكبها إلا ليري من حوله من آيات كرامته ما يخضعون له به فيسلمون بكمال ولايته!، وصار اعتبار الحقيقة الشرعية التي جاءت بها النبوات علامة حجب ونقصان فصاحبها بليد كثيف الطبع لا يلائمه إلا مقام العوام الذين يرزحون تحت نير التكليف بالشريعة الظاهرة فهم محجبون لبلادتهم عن الحقيقة الباطنة!، وتلك الشريعة التي حقروها فجعلوها دليل نقصان هي التي سار عليها الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من الصديقين والشهداء إلى الممات فما ترك نبي أو ولي الصلاة حتى قبضه الرب، جل وعلا، فهي آخر وصايا النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بها ختم رسالته الخاتمة، وهي ما أفزع عمر فنسي جرجه، وهي ما قتل علي، رضي الله عنه، وهو يوقظ الناس لها.

ثم هم على ما هم عليه من رسم الاستباحة العملية قد زلوا في باب الاعتقادات العلمية فلم تنشأ تلك الاستباحة إلا فرعا عن غلو في تناول فلسفة اليونان التي غلبت على فئام من أهل الطريق، فالرب، جل وعلا، والكون متلازمان، إذ الأول علة صدور الثاني على حد الإيجاب الذاتي الاضطراري، فلا إرادة للرب، جل وعلا، كان بها هذا الكون، ولا صفات فاعلة من الأزل قد صدرت عنها كلمات التقدير والإيجاد والتكوين والتدبير، وإنما علة مطلقة عن أي وصف، وذلك محض التعصيل لوصف الرب، جل وعلا، قد صدر عنها من الأزل هذا الكون فهو جزء منها قديم بقدمها، به تظهر آثارها، فالكون جزء من خالقه!، فمظاهر صفاته هي ما قام بخلقه من أوصاف جلال أو جمال، فيكون وصف المخلوق الفاني هو عين وصف الرب الباقي، كما أن ذات الكون هي عين ذات الرب، جل وعلا، وذلك منتهى ما وصل إليه العقل البشري من فحش مقال في الإلهيات، إذ صارت الأعيان وإن نجست، والأفعال وإن قبحت، كلها من الله، عز وجل، ذاتا وصفاتا، فهي بدعة عجيبة رسمها التسوية المطلقة بين كل الأعيان والأفعال والأحوال والأديان ....... إلخ، ولذلك تلقى رواجا في الغرب، فيكرم أساطينها فهم رسل المحبة التي لا تفرق بين مؤمن وكافر، فالكل من عين واحدة قد صدر!، وذلك أمر كان مبدؤه مستصغر شرر الغلو في شهود قدرة الرب، جل وعلا، في حقيقته الكونية، وجفاء شهود حكمته في حقيقته الشرعية، وللشيطان خطوات يستدرج بها المكلف حتى ينسلخ من الديانة إلا من عصم الرب جل وعلا.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير