تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لا يستقل بإدراك تفاصيلها، وإن أدرك جملتها، فهو، كما تقدم مرارا، يدرك اتصاف الرب، جل وعلا، بأوصاف الكمال إجمالا، فتلك الفطرة المجملة: أثر الميثاق الأول، فتأتي النبوات لتفصل الإجمال وترفع الإشكال بمحكم الوحي المعصوم، فلا بيان أصدق من بيانها العلمي بأصدق الأخبار والعملي بأعدل الأحكام، فما بلغ العبدَ من وصف ربه، فليقبض عليه، فإنه أشرف أجناس الرزق التي تتشوف إليها همم الشرفاء الذين فطنوا لحقيقة هذه الدار، فسعوا في تحصيل الرزق الباقي، وشغل غيرهم في تحصيل الحطام الفاني، فهم في شغل، والناس في شغل آخر، فأولئك على رسم سلطان العلماء لما شغب عليه بعض السفهاء، فأرادوه على تقبيل يد السلطان، فأبى سلطان العلماء أن يذل العلم لسلطان الأمراء فتلك رياسة نسبها ينتهي إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذه رياسة تنتهي بموت صاحبها، فبين العز بن عبد السلام والأشرف موسى من التفاوت في الشهرة بعد وفاتهما ما قد علم، فقد كتب الله، عز وجل، للعز حظه من: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، وكتب للأشرف حظه من رياسة الدنيا فنالها ثم مضى إلى ربه فهو يقصل بينه وبين العز فيما كانا فيه يختلفان، فمن شغل بتحصيل أشرف أجناس الرزق ناله منها أشرف أجناس اللذات العلمية في هذه الدار، إذ قد باشر قلبه العلم بأسماء الرب، جل وعلا، وأوصافه، فعلم منها وصف الجمال فرغب، وعلم منها وصف الجلال فرهب، فحمله الرجاء على الطاعة وزجره الخوف عن العصيان، فهو راج خائف، محب وجل، راغب راهب، تحمله المحبة على الفعل امتثالا، وتزجره الخشية عن المعصية انكفافا، يرجو ما رجا أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه: "وَاللَّهِ قَدْ جَاهَدْنَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْنَا وَصُمْنَا وَعَمِلْنَا خَيْرًا كَثِيرًا وَأَسْلَمَ عَلَى أَيْدِينَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَإِنَّا لَنَرْجُو ذَلِكَ"، ويخشى ما خشي الراشد العمري رضي الله عنه: "وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ بَرَدَ لَنَا وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ"، فكلاهما قد بلغ الغاية في أشرف مقامات العبودية: مقام الرغبة وإحسان الظن بالرب، ومقام الرهبة وإساءة الظن بالنفس، وبهما حد المحققون من أهل العلم العبودية باعتبار فعل العبد فهي: كمال المحبة مع كمال الذل، والذل يكون إلا لمهاب تخشاه القلوب وتعظمه وإن كانت تحبه، وفي الحديث: "استحيي من الله استحياءَ رجل ذي هيبةٍ من أهلك"، فالحياء من صالحي البشر يكف النفس عن خوارم المروءة، ولله المثل الأعلى، فإن الحياء منه أعظم، لعظم سلطانه، فيكف صاحبه عن خوارم الديانة، برسم مراقبة الرب، جل وعلا، في السر والعلن:

عليك منك إذا أخليت مرتقب ****** لم تأت في السر ما لم تأت إعلانا

وحراسة سماء الخواطر بشهب الاستعاذة من خطرات السوء التي يلقيها الشيطان في روع السالك إلى ربه طريق الهجرة برسم السنة، حتم لازم، فقد علم أن رقيب السماء قد أحاط بكل شيء علما، فرقيب الأرض يغفل أو يعطب أو يهلك، فليس لسلطانه عموم، بل هو مخصوص بأوقات دون أوقات، وأحوال دون أحوال، فلا سلطان له ليطلع على مكنون الصدور، فغايته أن يرصد الظاهر، وكم من ظواهر تخدع الرقيب عليها!

والشاهد أن القلب إذا حصل رزقه من هذا النوع من الصفات، واستزاد فحصل رزقه من صفات الذات الخبرية التي لا يحيلها العقل ولا يوجبها بل يجوزها حتى يرد المرجح المثبت لها من خبر الأنبياء عليهم السلام، فإذا ورد خبرهم بطل خبر أو قياس أو ذوق غيرهم، فيثبت ما أثبتوه وينفي ما نفوه، ويتوقف في غيره إثباتا أو نفيا، إن كان من الجائزات عقلا، فإن كان من المحالات لاستلزامه بقياس العقل الصريح لا بقياس الشمول أو التمثيل الذي ردت به النصوص الصحيحة بزعم أن ظواهرها توهم التشبيه فلزم تأويلها تنزيها!، إن كان من المحالات على هذا الرسم: نفاه بعموم: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، ولا ينسى نصيبه من إثبات صفات الأفعال الكاملات فهي محط الفائدة في هذا الباب الجليل: باب القضاء والتقدير، فيثبت تعلق أوصاف الكمال الفعلية بالمشيئة الربانية، فلجنسها من الأولية ما للذات

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير