تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

سوداً، ويجوز أن يظهر المعجزة على أيدى الكذابين ويرسل رسولاً يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان، ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور. ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهى بالكلية، ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ولكن مشى الحال بعض المشى بتناقضهم وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها". اهـ

ص113.

فقد اقترن بذلك نفي صفة الكلام عن الرب، جل وعلا، أو تأويله بالكلام النفسي، بلا صوت أو حرف، على ما اطرد من شبهة قياس الشمول أو التمثيل لصفة الخالق، جل وعلا، بصفة المخلوق، فنفوا الكلام وأثبتوا العبارة المخلوقة التي تدل على المعنى النفسي القائم بالذات قيام صفة الذات بالذات، فالكلام: صفة ذات، وذلك صحيح، ولكنه ليس ذاتيا من كل وجه: فليس ذاتيا من جهة أفراده، بل هو ذاتي من جهة نوعه، فالرب، جل وعلا، لم يزل متكلما من الأزل، وإن لم يشأ إحداث ما شاء من كلماته الكونيات أو الشرعيات، فإذا شاء التكلم بما قضى به من الأمر الكوني النافذ، وهو وحي الملائكة الكرام على حد قوله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ)، أو الشرعي الحاكم، وهو وحي الرسل عليهم السلام على حد قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ)، فإنه يحدث ما شاء من آحاده متعلقا بمشيئته العامة. والكلام يعم اللفظ والمعنى: مطابقة، بخلاف من قصره على المعنى فقصر دلالة مطابقته على المعنى دون اللفظ، وفي مقابل من غلا في إثبات المعنى وجفا في إثبات اللفظ من المتكلمين، غلا المعتزلة في إثبات اللفظ، فالكلام عندهم: مخلوق من كل وجه: لفظا ومعنى، بخلاف الأولين الذين قالوا بخلق اللفظ الدال على المعنى دون المعنى القائم بالنفس، فغلو المعتزلة في مقالة: اللفظ المخلوق، صير دلالة الكلام على اللفظ: دلالة مطابقة فلا يدخل المعنى، وذلك في مقابل من قصر المطابقة على المعنى دون اللفظ، والصحيح التوسط بين الطرفين، وهو ما ذهب إليه أهل السنة فدلالة الكلام عندهم على الففظ والمعنى معا: دلالة مطابقة، فالكلام: لفظ مسموع ومعنى معقول، وهذا معنى قول النحاة: الكلام: قول مفيد، فالقول مئنة من اللفظ، والإفادة مئنة من المعنى وهي تقتضي التركيب ولو مقدرا والقصد.

ووجه مقارنة نفي الكلام اللفظي لنفي الحكمة عن أفعال الرب، جل وعلا، أنه يرجع إلى نفي الحكمة بالتسوية بين كل الكلمات الكونيات والشرعيات، فكلها تؤول إلى معنى واحد قائم بالذات وإنما ترد عليه عوارض اللفظ من أمر أو نهي، فهي ليست جزءا من حقيقته، بل هي عبارة مخلوقة يؤدى بها.

ووقعوا أيضا في أقوال ترجع كلها إلى ما تقدم من نفي الحكمة عن أفعال الله، عز وجل، فنفوا التحسين والتقبيح العقلي مطلقا، فليس في الأشياء حسن أو قبح ذاتي، وإنما الحسن والقبح أمر يعرض للشيء لتعلق خطاب الشارع، عز وجل، به، مدحا أو ذما، فيجوز بلازم هذا القول أن تكون الفواحش حسنة إذ ليس فيها معنى قبيح، وإنما عرض لها القبح لتعلق خطاب التقبيح الشرعي بها، فلو زال هذا التعلق، فحل محل خطاب التقبيح: خطاب التحسين لانقلب الفعل حسنا!، وإن كان فاحشا تأنف منه النفوس، فهو قبيح بأصل الوضع، كما يقول الأصوليون في المحرم لذاته، فلم يعرض له التحريم من خارج كالمحرم لغيره، وإنما الوصف للتحريم ثابت مستقر فيه فهو من خصائصه الذاتية التي لا تنفك عنه، وفي مقابلهم غلا المعتزلة في إثبات دور العقل في التحسين والتقبيح فردوا الأمر كله إليه وجعلوه صالحا لإناطة التكليف به، ولو قبل ورود الشرع، وتوسط أهل السنة بين من رد الأمر كله للشرع كالمتكلمين، ومن رده كله إلى العقل كالمعتزلة، فقالوا بالتحسين والتقبيح العقلي، فإن في الأشياء أوصافا تستحسن وتستقبح لذاتها، وفي العقول قوى تدرك ذلك، ولكنها لا تصلح لإناطة التكليف بها قبل ورود الشرع، فلا تكليف إلا بشرع: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير