تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد أدى ذلك إلى ظهور مقالة الجبر، إذ نفي الحكمة، يلزم منه التسوية بين الأفعال حسنها وقبيحها، لانقطاع صلتها بالكلمات الشرعية التي هي متعلق الحكمة، إذ الأمر والنهي إنما يكونان لمعانٍ مؤثرة في الأفعال تصلح لتعليق أوصاف المدح والذم، وأحكام الوجوب والحرمة، فإذا استوت الأفعال بجفاء تعلقها بالكلمات الشرعيات والغلو في إثبات تعلقها بالكلمات الكونيات فتكون كلها محبوبة للرب، جل وعلا، لمجرد أنه شاء وقوعها، فالتسوية بين المحبة والإرادة مطلقا: تسوية مجملة، إذ الإرادة، كما تقدم، جنس تحته نوعان: الإرادة الشرعية وهي متعلق محاب الرب، جل وعلا، التي يلزم من فعلها رضاه، والإرادة الكونية التي تعم المحبوب والمكروه معا، فجهة تعلقها: جهة تكوين بالقدرة لا تشريع بالحكمة كما في الإرادة الشرعية.

فإذا التزم نافي الحكمة تلك التسوية فسوى بين المقدور الكوني والمأمور الشرعي فإنه واقع في الجبر لا محالة، إذ الكون كله مراد للرب، جل وعلا، مطلقا، دون تقييد لذلك بإرادة التكوين، فأي شيء منه قد صدر من الرب، جل وعلا، على حد النفاذ، فلا يملك العباد إلا قيام الأفعال بهم قيام الصفات الاضطرارية كالموت والمرض، لا الصفات الاختيارية التي يصح تعليق الثواب والعقاب بها، بوقوع الابتلاء بالأمر والنهي المتوجه إلى إرادة مختارة وإن كانت مخلوقة لا تخرج عن حد الإرادة الكونية النافذة.

وأدى ذلك أيضا بمن غلا في هذا الأمر إلى إسقاط التكليف الشرعي، إذ التكليف الشرعي، كما تقدم، إنما يتعلق بأوصاف الأفعال، فيتعلق بالحسن وجوبا أو ندبا فهما متعلق الوعد بالثواب، ويتعلق بالقبح تحريما أو كراهة، فالأول متعلق الوعيد بالعقاب، والثاني متعلق اللوم وإن لم يكن فاعله آثما شرعا، فإذا جفا المكلف في اعتبار أوصاف الحسن والقبح الذاتية في الأفعال فإنه سيبطل تلك المعاني المؤثرة في ترتب الأحكام على أوصاف الأفعال، فتستوي عنده كلها إذ لا معنى ذاتي فيها يدركه العقل ليحسن الفعل أو يقبحه، فالأفعال كلها على حد سواء، وإنما يرد التشريع بتعليق الحسن بأفعال، وتعليق القبح بأفعار أخر ترجيحا بلا مرجح إذ لا اعتبار للحكمة وإنما يكون الأمر بمحض المشيئة والقدرة.

وهم مع ذلك لم يلتزموا تلك اللوازم، ولله الحمد، في الأحكام العملية، إذ أثبتوا القياس الفقهي، ولا يكون ذلك إلا بملاحظة علل الأحكام، فوقع لهم تناقض بين، إذ تكلموا في أصول الدين بوجه، وفي أصول الفقه بوجه آخر، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية، رحمه الله، وهذا، كما يقول ابن القيم، رحمه الله، خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها، إذ لو طردوها في الأحكام لأبطلوا الشرائع كما فعلت الإباحية المشركية التي احتجت بالقدر الكوني لإبطال القدر الشرعي.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءَهم - لكمال ميراثهم لنبيهم - آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة فى أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهي، وصدقوا بالوعد والوعيد، فآمنوا بالخلق الذى من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة، وبالأمر الذى من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب، فصدقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفى لوازمهما كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر، وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة فى هذا الميراث النبوي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ............ والمقصود أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل وورثتهم، والقضاءُ والقدر منشؤُه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر". اهـ

ص112، 113، 114.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير