تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فورثة الأنبياء عليهم السلام أعظم الناس حظا من تركة النبوات، فقد ورثوا في هذا الباب: الإيمان بقدرة الرب، جل وعلا، النافذة، فأورثهم ذلك ذلا وافتقارا إلى الرب، جل وعلا، إذ مقاليد القلوب بيده، ما شاء منها أقام فضلا، وما شاء منها أزاغ عدلا، فذلك ذريعة إلى التحلل من الحول والقوة البشرية، إلى الحول والقوة الربانية، فمرد الأمر كله إلى الكلمات التكوينية النافذة الصادرة عن الإرادة الربانية القاهرة، فلا تحول لعبد من حال إلى حال إلا بكلمة كونية هي أثر القدرة النافذة في وقوع المقدور كما قضى الرب، جل وعلا، أزلا، فمن عرف ذلك لم يصب بالعجب، إذ ليس له من عمله شيء، فما هو إلا توفيق الرب، جل وعلا، أن يسر له سبب نجاة بعلم أو عمل، مع عظم التقصير وكثرة الصوارف، فمن وجد طريق الخير ميسرا فليسر فيه، وإن أضر بدنياه، فإنها دار لا يسلم منها كائن من ضرر يقع عليه سواء أكان من أهلها أم غريبا مرتحلا قد مر بها، فأرباب الدين قد أضرتهم، وأربابها لم يسلموا من أذاها مع كونهم خداما لها وحراسا على أبوابها، ولكنها هكذا طبعت، فلا يأمن لها إلا غافل، ولا يحسن الظن بها إلا ساذج، ولا يصرف الهم في تحصيلها إلا جاهل قد شغل بالسبب عن الغاية، لفساد في تصوره باحتجابه عن علوم النبوات المصححات للأفهام المزكيات للقلوب والأبدان بصالح الأحوال والأعمال، فمن قدم المصلحة الصغرى مع كونها ناقصة يعتريها من التغير ثم الفساد ما يعتريها على المصلحة العظمى السالمة من أسباب الفساد، الباقية بإبقاء رب العباد، الخالصة من الشوائب والأكدار، فلا يقدم تلك مع حقرها على هذه مع عظمها إلا مخذول قد أتي من قبل فساد النية والتصور، فالإرادة فاسدة لفساد النية، والحكم فاسد لفساد التصور، فلا منشأ صحيح للعمل، ولا منهج صحيح له، وإنما فساد في الباطن الإرادي والظاهر العملي، وما ذاك، كما تقدم، إلا فرع عن شؤم انقطاع مادة النبوة من القلب، فهي مادة الحياة التي بها يصحح علمه ويستجمع جيشه لينازل جيوش الشبهات والشهوات برسم التوحيد أمضى أسلحة القلب في معركته المصيرية للفوز برضا الرب، جل وعلا، أشرف ما جمعت له همة أو عقد له لواء، فما تحرك شيء في هذا الكون إلا برسم المحبة، صحيحة كانت أو فاسدة، وأشرف محبة: محبة من يحب لذاته لكمال صفاته وأفعاله: الرب العزيز جلالا، الكريم جمالا، من يأخذ فلا يفلت فأخذه أليم شديد، ومن يغفر ولا يبالي على ما كان من تقصير فهو الغفور الرحيم، فلا يستقيم القلب إلا إذا تعلق بأوصاف جلاله رهبة تبعث على الكف، وأوصاف جماله رغبة تبعث على الفعل، ولن يكون شيء من ذلك إلا إذا شاء تبارك وتعالى، فمرد الأمر، كما تقدم في أول الكلام إلى: قدرة الرب، جل وعلا، النافذة.

وهم مع ذلك قد آمنوا بالحكمة الشرعية والكونية، فلم يعطلوا أسباب الشرع الحاكم برسم إحسان الظن!، أو مضي القدر الكوني فيهم بالضلال فلا يهتدون، وما أدراهم لعلهم يرجعون فلم يطلعوا على اللوح المحفوظ ليعلموا قضاءهم المبرم بل لم يطلعوا على الكتاب الذي بأيدي الكتبة عليهم السلام ليعلموا قضاءهم المعلق فلا علم لهم بكليهما فاحتجاجهم بالكتاب الأول أو الثاني باطل، وإنما يوقعون أفعالهم الاختيارية في هذه الدار برسم التكليف لا التسيير، فتأتي على وفق ما قضى الرب، جل وعلا، أزلا، فلا تخرج عن إرادته النافذة، فهي تأويل الكتاب الأزلي في عالم الشهادة الوجودي لتظهر آثار صفات كمال ربنا، عز وجل، وليصح الثواب والعقاب بتعلقه بأفعال كائنة لا أفعال مقدرة لما تكن، فلا يتعلق الثواب والعقاب بمعدوم.

ولم يبطلوا سنن الكون برسم التوكل!، فهم ساعون في تحصيلها برسم التعبد فذلك ما امتازوا به عن سائر الخلق الذين يبذلون الجهد ويستفرغون الوسع في تحصيل أسباب الأبدان، ويغفلون بل يتغافلون عن تحصيل أسباب الأديان، فهم في الديانة: جبرية معطلة للأسباب يحتجون بالكون على إبطال الشرع، وفي الدنيا: قدرية نفاة لتأثير القدرة الإلهية في إيقاع المقدورات ملتفتون بالكلية إلى الأسباب المشهودة، منكرون بالكلية للأسباب المغيبة بل ربما لمجري الأسباب، جل وعلا، على رسم الإلحاد والزندقة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير