تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق ولب العالم، وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال، فإن القدرية تؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الديني ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها وهذا حقيقة إنكار القضاءِ والقدر. وكذلك الحكمة، فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى، وإرادته لمراده تعالى، فهي عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقة ويثبتون حكمة زائدة على ذلك، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ويجعلونها مخلوقاً من مخلوقاته كما قالوا فى كلامه وإرادته فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ الحكمة وجحدوا معناها وحقيقتها". اهـ

ص113.

فالجمع بين القدرة والحكمة شعار المتعبدين للرب، جل وعلا، بأوصاف جلاله وجماله، فلم يفرقوا بين وصف جلاله من القدرة، ووصف جماله من الحكمة، فمن نظر إلى الجلال دون الجمال غلا في شهود الحقيقة الكونية وجفا في شهود الحقيقة الشرعية فأصابه النقص في باب الحكمة إذ قد أهملها بردها إلى مسبِّبها، وذلك حق، ولكن مسبِّبها، جل وعلا، هو نفسه الذي أمر بتحصيلها وأودع فيها قوى التأثير الفاعلة، فتلك سنته في كونه، بل تلك سنته في شرعه فإن تحصيل الدرجات الرفيعة في الديانة والأحوال الكاملة والأحكام العادلة والعلوم النافعة .......... إلخ من ثمار النبوات اليانعة لا يكون إلا ببذر أصولها في القلب، والسهر عليها بالرعاية والسقي، لتنبت شجرة التوحيد ذات الفرع الشامخ والأصل الراسخ، فلا يتصور أن تنبت شجرة راسخة كشجرة الزيتون إلا بعد عشرات بل مئات السنين، فكم من جيل قد تعاهدها حتى صارت على تلك الهيئة العظيمة، فجذورها قد ضربت في الأرض وفروعها قد علت في السماء، فكذلك شجرة الإيمان لا يحصل لها الرسوخ في القلب إلا بتوالي أجناس الطاعات علوما وأحوالا وأعمالا عليها، فتؤثر مجموعها ما لا تؤثر بآحادها، وإنما السيل اجتماع النقط:

فاليومَ شيء وغدًا مثله ******* من نخب العلم التي تلتقط

يحصل المرءُ بها حكمة ******* وإنما السيل اجتماع النقط

والغالي في الحقيقة الكونية معطل للحكمة الإلهية لا محالة أو مؤول لها بمجرد مطابقة المعلوم الكائن في عالم الشهادة للمعلوم الأول المقضي في عالم الغيب، وذلك أمر بدهي، فالحكمة تعمه وتزيد عليه ما أوله من سلك هذا المسلك، فإنه ما لجأ إلى ذلك إلا لينفي الوصف المؤثر في السبب فيرد الأمر، كما تقدم، إلى قدرة المسبِّب، جل وعلا، دون نظر إلى حكمته التي أتقن بها الأسباب فأودع فيها بجميل وبديع صنعه القوى المؤثرة التي تستجلب بها مسبَّباتها، فلا يطلب الشبع بلا طعام أودعت فيه قوى الإشباع وإن لم تؤت أكلها إلا بإذن ربها فأثرها لا يظهر مع كونها فاعلة من جهة ترتب مسبَّبِها عليها، إلا بإذن ربها الذي خلقها وقدرها وهداها لتسلك في البدن مسالك دقيقة يحصل بها كمال الاغتذاء فتتحول في سلسلة من التفاعلات المحكمة المتوالية إلى طاقة تؤثر في الأعضاء حرارة وقوة تنهض بها لمباشرة وظائفها، فالخلية تنهض بجوار الخلية ليصح النسيج، والنسيج إلى النسيج عضو فاعل في جهاز حيوي، لتنهض الأجهزة بالبدن كله، فنظهر عليه أمارات الصحة والاكتفاء فتنقطع حاجته إلى الطعام حتى تستهلك القوى الكيميائية الحيوية في خلاياه وأنسجته فتتأثر مراكز الإحساس في المخ بما تنقله إليها الأعصاب من إنذار بقرب نفاد المؤن فيسارع الحس الظاهر إلى تحصيل أسبابها من الخارج لتمتلئ مخازن الطاقة من جديد إلى حين إشعار آخر بنفاد المؤن ....... فتتكرر تلك السلسلة من العمليات الحيوية الكيميائية في إتقان عجيب فقد أودع في كل تفاعل قواه المؤثرة، وهو مع ذلك محكوم بكلمة كونية مدبرة، فمن أغفل الأسباب بالكلية لم يلتفت إلى دقائق الحكمة الربانية في تلك العمليات الحيوية، فصار الأمر عنده مجرد حصول عند الطعام لا به!، فلا قوة في نفس الطعام يتولد منها من آثار بديع الصنع ما يدل على اسمه الحكيم الذي أحكم كل شيء صنعه، ووضع كل سبب في موضعه الملائم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير