تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلا يحصل الاغتذاء بالهواء، إذ ليست فيه القوى المودعة في الطعام، فجرمه اللطيف قد ناسب أن تودع فيه أسباب تحصيل الأوكسجين اللازم لإتمام التفاعلات الكيميائية، فلكل فعله المناسب لخلقه، وذلك من معاني الهداية الكونية في قوله تعالى: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، فأعطى الهواء خلقه من اللطافة ثم هداه إلى مباشرة خلايا التنفس، وأعطى الطعام خلقه من الكثافة ثم هداه إلى مباشرة خلايا الهضم. وكل ذلك من ربوبية التدبير: الشق الثاني الذي أغفله من نظر إلى ربوبية الملك والتكوين، فغلا في تقرير الحقيقة الكونية على حساب الحقيقة الشرعية.

ومثل ذلك يكون في الشرائع كما في الطبائع، فإن العمل سبب النجاة فمن عطله، أو قال بحصول النجاة عنده، كقول من قال بأن الصلاة تسقط عن المكلف عند أدائها لا بأدائها، وهو أثر كلامي سرى إلى مباحث الأصول، من صنع ذلك فقد غلا في شهود مقام الإرادة الكونية وجفا في شهود مقام الحكمة الشرعية، فالسنة مطردة في أمور الأديان وأمور الأبدان، فلا ينال مقدور كوني أو شرعي إلا بتحصيل سببه، ولا يكون ذلك إلا بإقدار الرب، جل وعلا، المكلف عليه، فإن شاء امتن بالقدرة والإرادة فضلا، وإن شاء حجبها عدلا.

وقد سار مؤول الحكمة على نفس المنوال في مسألة العلم الأول والثاني فقال بأن علم الرب، جل وعلا، أزلي، وهذا حق، فالعلم الثاني ليس إلا وقوع المعلوم على ما أراده الرب، جل وعلا، فلا يتجدد لعلمه تعلق بالمعلوم حال وقوعه، وذلك خلاف الحق، إذ علمه، عز وجل، أول أزلي باعتبار نوعه، ولا يعارض ذلك تعلقه بالمعلوم حال صدوره من العبد فيحصيه عليه بالعلم الثاني متعلق الثواب والعقاب، مظهر حكمة رب الأرباب، جل وعلا، في التفريق بين العباد في المآلات الأخروية، فرعا عن تفرقهم في الأحوال الدنيوية، فـ: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)، فأجمل الحكم بعدم الاستواء فذلك من الخبر الصحيح الموافق لقياس العقل الصريح بانتفاء التماثل في الحكم فرعا عن اتتفاء التماثل في الوصف ثم ذيل بالبيان، على حد الفصل لشبه كمال الاتصال بين المجمل ومبينه، ذيل بالبيان بذكر حكم أحد طرفي القسمة العقلية، وهم أصحاب الجنة لنباهة ذكرهم وعلو شأنهم فهم الأحق بالنص على مآلهم، فحصل بذلك تمام البيان إذ نص على حكم أهل الجنة منطوقا وأشار بدليل الخطاب إلى حكم أهل النار فلهم ضد حكم الفوز من الخسران لقيام ضد الوصف بهم، فذلك من قياس العكس الذي اطرد استعماله في الكتاب العزيز في سياق الوعد والوعيد، فالوعد دال بمفهومه على الوعيد بانتفاء علة الوعد وثبوت علة الوعيد، والوعيد دال بمفهومه على الوعد بانتفاء علة الوعيد وثبوت علة الوعد، فيستفاد من النص حكم المذكور منطوقا وحكم المسكوت عنه مفهوما، وذلك من صور الإيجاز البليغ في الكتاب العزيز بتضمين السياق أكبر قدر من المعاني في أوجز قدر من المباني فضلا عن كون الخبر دالا على الإنشاء من وجه، فالوعد مستلزم للفعل طلبا لتحققه، والوعيد مستلزم للترك حذرا من وقوعه، والشاهد أن ذلك: دليل نقلي على ميزان عقلي كلي، صدر من مشكاة النبوات، به يوزن المكلفون فيتراجحون بما قام بقلوبهم من الحقائق الشرعية، فذلك فرع عن الميزان الأخروي، فبطاقة التوحيد فيه قد رجحت، وليس ذلك لكل بطاقة، فإنها على لسان كل موحد وبين حقائقها في القلوب من التباين ما بين الأعيان كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله.

فتعلق العلم الثاني بالمقدور إحصاء على العبد واستخراجا لسبب الثواب أو العقاب، ليؤدي السبب إلى مسبَّبه على ما اطرد من معاني الحكمة في إيداع القوى المؤثرة في الأسباب هو: من مقتضيات تلك الحكمة فمن نفاه فقد نفى مظهرا من مظاهرها الجلية. فالعلم والحكمة قرينان في النقل فلا يكاد يذكر العلم إلا مع الحكمة، قرينان في العقل فإنه لا حكمة بلا علم، فالحكمة أعلى مراتب العلم إذ قد بلغ العليم، جل وعلا، حد وضع كل شيء في موضعه الملائم له، ولا يكون ذلك إلا بكمال العلم بأحوال وطبائع المحال وما يلائمها من مواد الصلاح أو الفساد، فلا يوضع الصلاح في موضع فاسد، ولا يوضع الفساد في

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير