تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

موضع صالح، وإنما يوضع كل في موضعه، ليسير على وفق ما سنه الرب، جل وعلا، كونا وقضاه أزلا، فتظهر بذلك آثار حكمته كما تقدم مرارا.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب، وأنكرت الأخرى كمال علمه، وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات القدرة والعلم وأنكرت الحكمة والرحمة، ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاءِ والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين من هذه الثلاثة كثيراً كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنَ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6]، وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، وقال: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ العَلٍيمِ} [غافر: 1 - 2] وقال: في حم فصلت بعد ذكر تخليق العالم: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12]

وذكر نظير هذا في الأنعام فقال: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96].

فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضى أن لا يخرج موجود عن قدرته، وارتباطه بعلمه التام يقتضى إحاطته به وتقدمه عليه، وارتباطه بحكمته يقتضى وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب تعالى. وكذلك ارتباط أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم بخلقه وأمره حكيم فى خلقه عزيز فى خلقه وأمره". اهـ

ص114.

فمنهم الغلاة الذين كفرهم السلف إذ أنكروا علم الله، عز وجل، صراحة، ولذلك كان إلزام الإمام أحمد لمعتزلة زمانه بقوله: أكان الله ولا علم؟، لما سأله أحدهم: أكان الله ولا قرآن؟، كان إلزاما صحيحا، إذ جعل القرآن من العلم، ونفي العلم أمر ينكره القدرية القدرية المعتدلة، إن صح وصفهم بالاعتدال، إذ يلزم منه وصف الرب، جل وعلا، بالجهل، وذلك كفر صراح كما لا يخفى.

فطائفة غلت في إثبات الحكمة حتى نفت القدرة وعلم التقدير المؤثر الذي به قدر الله، عز وجل، الكائنات أزلا، وطائفة قابلتها فغلت في إثبات القدرة وجفت في إثبات الحكمة، فجعلت الرب، جل وعلا، فاعلا بالمشيئة المطلقة، فلا يسأل عندهم عن فعله وهم يسألون لكمال قدرته، وهذا حق، ولكنه مشفوع بتمام الحكمة، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون لكمال قدرته وحكمته، ولذلك كان الأمر والخلق لله، عز وجل، فالأمر من حكمته، وله وجه تعلق بالقدرة إذ منه الكوني النافذ، والخلق من قدرته، جل وعلا، وله وجه تعلق بالحكمة إذ منه خلق التقدير، ولا يكون إلا بعلم أزلي مؤثر، فالحكمة ملازمة له بداهة، فلا يقدر الشيء على أكمل الوجوه إلا حكيم متقن، ومنه خلق التكوين وذلك متعلق القدرة النافذة.

وقد أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى وجه اقتران هذه الأسماء الثلاثة: العليم، الحكيم، القدير، أو ما يدل على وصف القدرة لزوما كاسم: "العزيز"، فإن من معاني عزته، جل وعلا، عزة القدر، فالعلم محيط، والحكمة بها تقع المقدورات على أكمل وجه، ولا يكون ذلك إلا بقدرة، ولو ضم إليها الناظر، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين: صفة الغنى المطلق، لازداد المعنى كمالا وحسنا، فإن في عالم الشهادة: من قد علم، ولكنه لا يحسن التدبير ليوقع ما علمه في الخارج على نحو متقن، ومنهم من يعلم ولا يقدر على إيقاع المعلوم على وجه متقن فله من إحكام التدبير نصيب، ولكنه لا يملك قدرة على التنفيذ لضعف الإمكانيات، ومنهم من توفر له كل ذلك، ولكنه يفتقر إلى مساعد أمين، فكثير ممن حوله فقراء إلى حظوظ أنفسهم ليس لهم من الغنى المطلق ما للرب، جل وعلا، فيستأثرون بكثير من امتيازات أي مشروع، وغالبا ما يكون ذلك برسم السرقة أو الاختلاس، وهي من صور الافتقار الظاهرة، إذ كثير من كبار اللصوص لا يسرقون لحاجتهم إلى طعام أو شراب فقد تجاوزوا حد الاكتفاء الذاتي بدرجات كثر، وإنما يسرقون لضمان وجاهات ورياسات أعظم باتساع

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير