تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثرائهم ووفرة أرصدتهم، وذلك نوع افتقار، وإن غلب عليه الافتقار المعنوي، فهم، كما تقدم لا يسرقون ليأكلوا، فيصح إجراؤهم مجرى السارق عام الرمادة!، وإنما يسرقون ليستكثروا، فتلك شهوة نفسانية، تدل على عظم افتقارهم إلى أي وجاهة، ولو كانت زورا، ولو اشتروها بترغيب المال أو ترهيب السلطان والجاه، وهم مع ذلك مفتقرون كبقية البشر إلى متطلبات البدن المادية من طعام وشراب ........ إلخ، فقد جمع لهم الفقران: فقر البدن الجبلي، وفقر الروح إلى لذة رياسة أو وجاهة ولو كانت وهما، والروح قد جبلت كما جبل الجسد على الحاجة والافتقار، ولكنها تبلغ غاية الكمال إن صرفت تلك الغريزة المركوزة فيها في بذل أجناس التأله للرب، جل وعلا، وتبلغ غاية النقصان والاستفال إن بذلتها تألها لغيره من معبود أو محبوب.

وما تقدم من عوارض النقص التي تعرض للبشر حال مباشرتهم أمرا من أمورهم: معان منفية عن الله، عز وجل، بداهة، فإن غناه ذاتي فلا يفتقر إلى غيره ليسلبه حقه، وهو، عز وجل، العليم قد أحاط علمه بالكليات الجليلة والجزئيات الدقيقة، وهو الحكيم فلا تدبير أحكم من تدبيره، وهو القدير فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن عرف نفسه بفقره وعجزه في موضع كهذا، عرف ربه، بأضداد ذلك من أوصاف الكمال، وبضدها تتميز الأشياء.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى والحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة، والحكمة هى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهى تتضمن العلم بالحق والعمل به والخبر عنه والأمر به، فكل هذا يسمى حكمة وفى الأثر: "الحكمة ضالة المؤمن وفى الحديث: "إن من الشعر حكمة"، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده وهو محمود على جميع ما فى الكون من خير وشر حمداً استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة، فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة والله أعلم". اهـ

ص114، 115.

إذ الحكمة من أوصاف الجمال متعلق الحمد.

فالشريعة قد أقيمت على الحكمة ولازمها من العدل فلا يخشى المستظل بظلها حر الظلم، فهي عدل كلها: في أخبارها وأحكامها، في علومها وأعمالها، فهي شريعة كاملة قد استغرقت أجناس العلوم النافعة والأعمال الصالحة، فهي مادة صلاح هذا الكون، إن ظهرت رسومها في أرض ظهر فيها من علامات الصحة ما يشرح الصدر ويطمئن القلب، وإن خفيت قي أرض ظهر فيها من علامات الفساد ما يزعج القلوب ويؤرق النفوس.

يقول ابن القيم، رحمه الله، في "إعلام الموقعين":

"فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْبَعْثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ؛ فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَظِلُّهُ فِي أَرْضِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَمَّ دَلَالَةً وَأَصْدَقُهَا، وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنْ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدْ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير