تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فَهِيَ قُرَّةُ الْعُيُونِ، وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ؛ فَهِيَ بِهَا الْحَيَاةُ وَالْغِذَاءُ وَالدَّوَاءُ وَالنُّورُ وَالشِّفَاءُ وَالْعِصْمَةُ، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْهَا، وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إضَاعَتِهَا، وَلَوْلَا رُسُومٌ قَدْ بَقِيَتْ لَخَرِبَتْ الدُّنْيَا وَطُوِيَ الْعَالَمُ، وَهِيَ الْعِصْمَةُ لِلنَّاسِ وَقِوَامُ الْعَالَمِ، وَبِهَا يُمْسِك اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَرَابَ الدُّنْيَا وَطَيَّ الْعَالَمِ رَفَعَ إلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ رُسُومِهَا؛ فَالشَّرِيعَةُ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ هِيَ عَمُودُ الْعَالَمِ، وَقُطْبُ الْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ". اهـ

فإنكار الحكمة قدح في كمال وصف الرب، جل وعلا، وسوء ظن به، إذ لازم نفيها جواز إرادة الرب، جل، هلاك عباده على حد الرضا، وهو ما نفاه، جل وعلا في محكم التنزيل: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ).

فلا يرضى لعباده الكفر بإرادته شرعا، وإن قضى به بإرادته كونا.

فالحمد لازم الحكمة إذ لا يُحْمَد إلا من قد بلغ فعله حد الغاية من الإتقان والإحكام، فأعطى كل شيء خلقه ثم يسر له الأسباب بفضله أو بعدله، فظهر من أمارات صلاح من ناله فضله فهداه، وفساد من ناله عدله فأضله بعد قيام حجة الرسالة عليه، وظهر من أمارات صلاح الكون بجريان سنة التدافع بين القبيلين على نحو قد بلغ الغاية من الإتقان وإن نال المؤمنين فيه من جنس المفاسد الكونية ما نالهم، ظهر من كل ذلك استحقاق الرب، جل، الحمد، مستغرقا أجناس المحامد وأقدارها، فله كمال الحمد وصفا وقدرا فرعا عن كمال حكمته.

وأعظم صور هذه الحكمة: استنباط المصالح الكلية من المفاسد الجزئية على نحو تعجز عقول البشر عن إدراكه لا سيما إذا اشتدت الخطوب وعظمت الكروب، فأصاب العقل الإغلاق والذهول، وسدت منافذ البصر بحجب المصيبة فلم تر ما وراءها من الحكمة البالغة والمصلحة العظمى، وسؤال الله، عز وجل، السلامة في الدين والدنيا، لا سيما في هذه الأعصار التي حرم كثير من المسلمين فيها من نعمة الأمن جزاء وفاقا على تفريطهم في أسبابه: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، و: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، سؤاله، عز وجل، تلك السلامة أمر، كما تقدم مرارا، لا يعدل به العاقل شيئا، فإن التعرض لأسباب البلاء برسم الاعتماد على الحول والقوة: نذير فسخ الهمم وانحلال عرى العزائم، فإن من وكل إلى نفسه فقد تكلف أسباب تلفها واستدعى رسل هلاكها، وليس الكلام في أزمنة العافية بمصدق حتى يمتحن صاحبه في أزمنة الشدة، فمن عوفي فليحمد الله وليحفظ أسباب العاقية بالمرابطة على ثغور الطاعة شكرا للمنعم، جل وعلا، ومن ابتلي فليستدعي أسباب الرضا فإن أبت فليستدع أسباب الصبر فهي أسرع في الإجابة، وإن كانت مرة لا تطيقها أغلب الأذواق. فإن سلم الله فبفضله وإن ثبت في الشدة فرحمة منه، وإن ابتلى فبعدله، وإن أزاغ في الشدة فعقاب منه، وفي كل تظهر آثار حكمته البالغة إذ لم يسو بين محلين مختلفين، فأعطى كل محل ما يليق به من الأوصاف، فاستحق الأول الثناء الشرعي لصبره على المقدور الكوني، واستحق الثاني الذم لجزعه وغفلته قبل ذلك في أزمنة السعة، فلو حشد أجناده، وملأ مخازنه بذخيرة الإيمان الحية، وصوامعه بأغذية القلوب النافعة من كلام النبوات المحكم، ما هزم من أول ضربة من ضربات الابتلاء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير