تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أي فقهم ما يتولد عن السيئات من العقوبة، فهو من إطلاق السبب وإرادة مسبَّبِه، أو على إرادة عموم السيئات لجنس ما دخلت عليه: "أل" من الأعمال والأقوال والأحوال، فتعم السبب والمسبَّب معا، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:

"وأعقبوا بسؤال النجاة من العذاب والنعيم بدار الثواب بدعاء بالسلامة من عموم كل ما يسوءهم يوم القيامة بقولهم: {وَقِهِم السيئات} وهو دعاء جامع إذ السيئات هنا جمع سيئة وهي الحالة أو الفعلة التي تسوء من تعلقت به مثل ما في قوله: {فوقاه اللَّه سيئات ما مكروا} [غافر: 45] وقوله تعالى: {وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131] ...... فالتعريف في {السَّيّئَاتِ} للجنس وهو صالح لإِفادة الاستغراق، فوقوعه في سياق ما هو كالنفي وهو فعل الوقاية يفيد عموم الجنس، على أن بساط الدعاء يقتضي عموم الجنس ولو بدون لام نفي كقول الحريري

: ... يا أهلَ ذا المغنى وُقيتم ضُرا

وفي الحديث «اللهم أعط منفقاً خَلفاً، ومُمسكاً تلَفاً» أي كلّ منفق ومُمسك". اهـ

واقتصر أبو السعود، رحمه الله، على الوجه الأول فقال: " {وَقِهِمُ السيئات} أي العقوباتِ لأَنَّ جزاءَ السيئةِ سيئةٌ مثلُهَا أو جزاءَ السيئاتِ عَلَى حذْفِ المُضافِ". اهـ

فالآية على هذا تحتمل كلا المعنيين، فلو حملت السيئات على الأحوال: فهي من الباب الأول، إذ حال فاعلها في دار الجزاء من السوء بمكان ولو حملت على الأفعال فهي من جنس الأعمال التي توعد فاعلها بالعقاب على ما اطرد من كلام أهل الأصول في تعريف المحرم، ولا يكون بداهة: إلا سيئة يكرهها الرب، جل وعلا، على حد قوله تعالى: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا).

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ويترجح أيضاً أن الاستعاذة تكون قد اشتملت على أصول الشر كله، وهو شر النفس الكامن فيها الذي لم يخرج إلى العمل، وشر العمل الخارج الذى سولته النفس فالأول شر الطبيعة والصفة التي فى النفس والثانى شر العمل المتعلق بالكسب والإرادة، ويلزم من المعافاة من هذين الشرين المعافاة من موجبهما وهو العقوبة، فتكون الاستعاذة قد شملت جميع أنواع الشر بالمطابقة واللزوم، وهذا هو اللائق بمن أوتي جوامع الكلم، فإن هذا من جوامع كلمه البديعة العظيمة الشأن التي لا يعرف قدرها إلا أهل العلم والإيمان". اهـ

ص117.

فالشر في هذا الباب من ثلاثة أوجه:

الأول: من النفس فهي مصدر الإرادات صلاحا أو فسادا، فهي الباعث الأول على الفعل إذ الحكم مسبوق بتصور علمي وفعل قلبي إرادي قبل أن يظهر أثره في عالم الشهادة الوجودي، فيكون الإطلاق هنا من باب إطلاق المسبب وإرادة سببه الأول. فدلالة اللفظ في هذه الحالة: دلالة لازم وهو ما يتولد عن الإرادة الفاسدة على ملزومه وهو ذات الإرادة الباعثة على ارتكابه.

والثاني: الفعل نفسه فهو ذات السيئة فدلالة اللفظ عليه في هذه الحالة: دلالة مطابقة.

والثالث: ما يتولد عن الفعل من شؤم العقوبة في الدنيا والآخرة، فدلالة اللفظ في هذه الحالة: دلالة سبب على مسبَّبه، أو: دلالة ملزوم وهو السيئة على لازمه وهو العقوبة.

فاستوفى قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كل تلك المعاني في لفظين فقط: "سيئات أعمالنا"!، وذلك اللائق بمقامه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو خير من بلغ عن ربه، عز وجل، فلم يؤخر بيانا عن وقت الحاجة بل بين لأمته كل ما ينفعها من خير لتلتزمه، وكل ما يضرها من شر لتجتنبه.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وإذا عرف هذا وأنه ليس فى الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، وكونها ذنوباً تأتى من نفس العبد، فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد، كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى وهى أمور ذاتية للرب تعالى وذات الرب تعالى مستلزمة للحكمة والخير والجود، وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن نفسه، فمن أراد الله به خيراً أعطاه هذا الفضل فصدر منه بوحيه من الإحسان والبر والطاعة، ومن أراد به شراً أمسكه عنه وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح، وليس منعه لذلك ظلماً منه تعالى، فإنه فضله، وليس من منع فضله ظالماً، لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به". اهـ

ص117.

فالخير ذاتي في الرب، جل وعلا، ليست له علة، فهو الغني بلا سبب غنى، بل هو خالق سبب الغنى في غيره، والشر في العبد ذاتي، على حد قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، فتأتي النبوات بالأخبار والأحكام لتحسم هذه المادة من نفوس المكلفين، وتغذي مادة الصلاح، فهو سبب خارج عن النفس تتلقاه من الوحي المزكي لها بأجناس الاعتقاد والقول والعمل.

فمن وفق إلى طاعة فبفضل الله فليفرح فهو خير مما يجمع، ومن ابتلي بدخيلة نفس فوقع في المعصية فذلك من عدل الرب، جل وعلا، فيه فلم يظلمه شيئا كان له، وإنما هي نعمته بالطاعة يهبها من يشاء فضلا، ونقمته بالمعصية يعاقب بها من بشاء عدلا، وفي كل له، جل وعلا، القدرة النافذة فلا راد لقضائه بفضل أو عدل، والحكمة البالغة فلا يضع مراضيه في محل قد استوجب سخطه، ولا يضع مساخطه في محل قد استوجب رضاه.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير