تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[13 - 01 - 2010, 03:49 م]ـ

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وأيضا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه ولا يخلى بينه وبين نفسه، وهذا محض فعله وفضله، وهو سبحانه أعلم بالمحل الذى يصلح لهذا الفضل ويليق به ويثمر فيه ويزكو به. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولوَاْ أَهَؤُلآءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] ". اهـ

ص117.

فهو، تبارك وتعالى، ملك يملك القلوب والأبدان، متصرف في الأحوال الكونية الظاهرة والباطنة، مجرٍ لقدره الكوني بقدرته، منزل لقدره الشرعي بحكمته، له كمال الملك والتدبير، يدبر المؤمن فيمده بأسباب الصلاح فضلا، ويدبر الكافر فييسر له أسباب الفساد عدلا، له الفضل إذ عافى وأمد، وله الحمد إذ ابتلى وقطع، فهو أعلم بالمحال وأحوالها، فلا يمد من ليس أهلا لمدده، فإن البذرة الطيبة لا تزكو إلا في أرض طيبة، فلا تنبت شجرة الإيمان في محل خبيث قد فسدت تربته، فلا تقبل آثار وابل النبوات النافع، بل ليس لها من طله نصيب، فهي صفوان أملس لا ينبت ثمرا ولا يمسك ماء، فلا ينتفع بها في علم أو عمل، فلا هي تنقله لأرباب الإرادات الصالحة ليثمر في قلوبهم وألسنتهم وأبدانهم أجناس مراضي الرب، جل وعلا، من الطاعات، ولا هي تنتفع به في نفسها لتتوسل إلى الله، عز وجل، بآثاره النافعة زمن الشدة النازلة، فإذا أصاب الغيث محلا صالحا، وكانت البذرة طيبة، فذلك فضل الله، عز وجل، يؤتيه من يشاء، والسنة الكونية جارية بتولد المسبَّب من سببه، صالحا كان أو فاسدا، وقد اجتمعت في هذه الصورة أسباب الصلاح: من محل ومادة، فالمحل طيب والمادة الحالة فيه زكية في نفسها مزكية لغيرها، تنبت في الفؤاد شجرة شكر راسخة تمتد من ساقها فروع الاعتقادات والأقوال والأعمال الصالحة فـ: "اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا"، فالشكر عام لكل محال التكليف الباطنة والظاهرة، ولا يكون ذلك إلا عن علم تقديري سابق، علم به الرب، جل وعلا، محال مراضيه فأمدها بأسباب الطاعة، ومحال مساخطه فأمدها بأسباب المعصية، إظهارا لآثار حكمته بالتفريق بين المحال المتباينة، فلكل ما يناسبه من المواد العلمية والعملية، فالتصور الصحيح لا تقبله إلا آلة فهم وإدراك صحيحة، قد تأيدت بالتوفيق الإلهي، فليس صلاح الآلة بمفرده كافيا لحصول التوفيق إلى طريق الهداية امتثالا، فغايته أن يصلح لإقامة الحجة الرسالية على صاحبها بفهم خطاب التنزيل الموجب لاتباع ما جاءت به النبوات من الأخبار تصديقا والأحكام امتثالا، فالاستطاعة الشرعية لصاحبها ثابتة، وهي متعلق التكليف، بخلاف الاستطاعة الكونية فهي متعلق التوفيق، فهي القدر الزائد الذي امتن به الرب، جل وعلا، على الموفق، بخلاف المخذول الذي حجب عنه الرب، جل وعلا، سمع الانتفاع، وإن لم يحرمه سمع الإدراك والفهم لتقوم الحجة به عليه، فلم يظلمه الرب، تبارك وتعالى، وإنما عوقب لاشتغال المحل بضد الطاعة من المعصية، فصار أهلا لحجب مادة الخير عنه، وتيسير مادة الشر له، فذلك من شؤم المعصية التي تستجلب بنات جنسها، كما أن للطاعة بركة تستجلب بها بنات جنسها، وشتان!.

فالله، عز وجل، أعلم بالقلوب وما يقوم بها من التصورات والإرادات، وإن لم تكن الأبدان على حد الكمال، بل قد تكون الفتنة أشد بمنح الإيمان لمن لا حظ له في عرض هذه الدار، فتشتد به فتنة أهل الجاه والسلطان: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير