تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ففتن السادة الذين حجبوا عن معنى ربوبية الإنعام التي تظهر آثارها على من علم الله، عز وجل، فيه خيرا فأسمعه، ولو كان من غير أولي الجاه والرياسة، فاقتضت حكمته أن يضع الهدى في قلبه دون قلوب كثير من أصحاب الوجاهات، بل إن أولئك غالبا ما تنقضي أعمارهم وتفنى قواهم الذهنية والبدنية في تدبير ما فتنوا أو شغلوا به من المناصب والمكاسب، فليس أصحاب السلطان والمال، كما يظن كثير من البسطاء، بخلو من الهموم، بل إن قلوبهم بإعراضها غالبا عن الذكر، غير مطمئنة، إذ وكل صلاحها إلى أسباب الدنيا فهي بها معلقة، وتعلق القلب بالسبب، ولو كان شرعيا، دون التفات إلى مجريه ومسبِّبه، عز وجل، سبب رئيس في خذلان صاحبه، فمن وكل إلى نفسه في سبب دين أو دنيا فهو خاسر في كل حال، إن أصاب فمعجب مغرور ينسب الفضل إلى نفسه، وإن أخطأ فجزع يائس من رحمة ربه، ففتن أولئك فقالوا بلسان مقال التهكم: أهؤلاء: فالاستفهام قد أشرب معاني الإنكار والتعجب، والإشارة إلى البعيد قد جاءت على حد الاستهزاء، فإن معنى العلو فيها غير مراد، بل قد استعملت استعمال المشترك اللفظي في ضد ما وضع له اللفظ أو استعمل فيه استعمال الحقيقة، فهو موضوع أو مستعمل على جهة الحقيقة للبعد، وغالبا ما يكون في المعاني علويا، وإنما أراده أولئك سفليا، لما قام بقلوبهم من التصور الفاسد الذي جعل الحق باطلا، والعلي دنيا، فاختلال موازين الأحكام فرع عن اختلال موازين القيم والمثل الكلية التي تنشأ من التصورات العلمية الباطنة، فلا يزن الإنسان غير المسدد الأقوال والأحوال بميزان النبوات المحكم، وإنما يزنه بميزان الهوى الذي يتعلق غالبا بالصور الظاهرة، من جاه ورياسة، فسلطان المال مفسد، وسلطان الرياسة مطغ، بل هو أشد أثرا من سلطان المال، فكثير من التفوس، كما تقدم في مواضع سابقة، قد تحررت من أسر الشهوات الحسية، ولكنها ما زالت قيد الحبس في أغلال الشهوات النفسانية ولذات التعظيم الوهمية التي تبذلها بطانة السوء لمن يقرها على ولاياتها وإن لم تكن أهلا لها، فكل قد افتقر إلى صاحبه، فالرأس مفتقر إلى الجسد لينهض به، والجسد مفتقر إلى الرأس ليحيى به، فلا بقاء لأحدهما دون الآخر، فالسلطان لا يبقى إلا بسيف، فإن كان مؤيدا بالكتاب فهو سلطان عدل، يستعمل السيف لتأويل أحكام الكتاب في دولته، فيحفظ به للوحي هيبته، وحري بمن كان ذلك دأبه أن ينصره الله، عز وجل، ولو بعد حين، وإن لم يكن فهو سيف جور يستعمله صاحبه في تثبيت أركان عرشه، فيقبل من الشفاعات الباطلة ويرضى من الأحوال الفاسدة ما لا يقدر على رده لئلا ينفض عنه الأعوان، فهو يصطنعهم ولو بما يسخط الرب، جل وعلا، عليه وعليهم، فلا يعدو الأمر كونه منفعة متبادلة فكل يحصل من الآخر مآربه.

وإمعانا في السخرية وصفوا عطاء الرب، جل وعلا، لأولئك بالمنة، مع أنهم لا يعتقدون ذلك، إذ لو كان الأمر كذلك لبادروا بقبولها فإن قياس العقل الصريح قاض بوجوب المسارعة في تحصيل أسباب السعادة والنجاة، فلسان حالهم: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، ولكنه ليس بخير لأنهم سبقونا إليه، فالدليل: نهوض نفر إلى الحق وقعود آخرين عنه، على طريقة من يعرف الحق بالرجال، وهي الطريقة التي صدت أمما من المتأخرين والمعاصرين عن قبول الحق لما عدلوا عن النظر في الحق إلى النظر في رجاله، وليسوا كرجال الصدر الأول الذين سخر منهم أولئك وهم يعلمون أنهم أعظم منهم قدرا وأرفع منهم شأنا، فالساخر اليوم من رجال الحق، إن صح أنهم رجاله، يعتقد أنهم أدنى منه مرتبة، ولا يحمل العالي عن النازل، بل يعلو بإسناده إلى طبقة أرفع، ومعيار العلو في العصور المتأخرة: معيار مادي لا يصلح استعماله في سبر كلام النبوات، فهي أرفع شأنا من أن توزن به.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير