تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بعبوديته، فإن المباءَة هى التى يبوءُ إليها الشخص- أى يرجع إليها رجوع استقرار- والمباءَة هى المستقر". اهـ

ص117، 118.

فالشكر حكم عملي ينشأ من تصور علمي، فلا بد أن يعرف الشاكر أولا أن ما قد وهبه: نعمة، فكثير قد وهب نعما كثيرة من دين أو دنيا، وهو لا يؤدي شكرها لأنه لم يدركها أصلا، فقد صارت عنده بحكم المزاولة: عادة، كمن يأكل، فإن الأكل عنده قد صار غالبا أمرا رتيبا، فإذا جاع أكل، وإذا شبع أمسك استجابة لداعي الطبع وحاجة البدن دون نظر إلى وجوه النعمة المتكاثرة في هذا الفعل من تيسير للمأكول وصحة آلة تهضم النافع وتخرج الضار، وقوى تنتفع بخلاصة هذا الغذاء، ولذة تعقب تناوله، فتدرك قوى الإحساس من لذته ما يعقبه فذلك قدر زائد في النعم الحسية يغفل عن تأمله كثير من المتنعمين بها، فالنوع الإنساني مفتقر لها ليحفظ وجوده، فهو مباشر لها لا محالة، ولو كانت على غير مراده النفساني، فهو يباشر أسباب الدواء، بل قد يرضى بقطع عضو من أعضائه استبقاء للأصل، وهو مع ذلك لا يجد لذة في تناول دواء أو علاج بكي أو بتر ........ إلخ من المؤلمات، وإنما اضطر إليه حفظا لوجوده، فكيف بما يباشره على ذات الحد من الاضطرار، ولكنه مع ذلك يجد فيه من اللذة ما يوافق مراده النفساني من لذة مطعم أو منكح ..... إلخ، فيحصل كلا المنفعتين بفعل واحد قد توارد عليه كلا الأمرين، فاجتمع فيه من المصالح ما يستوجب الشكر المضاعف، ومع ذلك لا يشعر كثير ممن اعتادوا مباشرة الأسباب الكونية بتلك النعم المركبة، لصيرورتها على حد الرتابة، كما تقدم، وربما حرموا لذتها وإن باشروها لشؤم معاص ارتكبوها، فينزع الرب، جل وعلا، من شهواتهم اللذة، وغالبا ما يقع ذلك لمباشر اللذات المحرمة فإنه يعاقب بضد مراده فما باشرها إلا لتحصيل لذة ولو آنية فعوقب بنزع مادة الإحساس بها من بدنه ونفسه، ولذلك كانت الطاعة والاستقامة سببا رئيسا في كمال الاستمتاع بالنعم الكونية، وتأمل حال مجتمع قد غلبت عليه العفة، فإنك تجد أفراده قد بلغوا من الفحولة قدرا صيرهم أعظم الناس حظا في إدراك لذة الوقاع، بخلاف المجتمعات التي تفشت فيها الرذيلة، فأفرادها قد أصيبوا بالملل والفتور فسلبوا نعمة الإحساس بالملاذ الجبلية التي ركبها الرب، جل وعلا، في الأبدان، ومن تأمل حال القرن الأول من هذه الأمة وجد من الطبائع ما يغري على ارتكاب الفواحش، فالبلاد حارة تنضج فيها الغرائز سريعا، ولا وازع من دين قبل البعثة، والأنكحة قد تعددت كما في حديث عائشة، رضي الله عنها، فصار تحصيل اللذة المحرمة أمرا ميسورا بل مشروعا قد أقيمت له النوادي ونصبت له الرايات، حتى بعث محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، فأقر الطيب ونفى الخبيث بكير الوحي المزكي للقلوب والجوارح، وجاء بحكمات العفة الباطنة والظاهرة ليلجم الشهوات الثائرة، فاستقامت تلك النفوس على منهاج النبوة، وليس من طبعها الاستقامة فهي تميل إلى التحرر بما اقتضته الجبلة والمحلة، فصار أولئك بعزوفهم عن الشهوات المحرمة أعظم الناس طلبا لها برسم الإباحة بل رجاء تحصيل الثواب على مباشرتها!، فلا ينقضي عجبهم: "أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ فتقرر النبوة أصلا جليلا في مباشرة المباحات عموما والنكاح خصوصا: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا"، فالنية قد صيرت العادة ولو وافقت هوى صاحبها: عبادة يثاب عليها، والأمر جار على حد التناسب العكسي فمتى زاد الانحلال قلت الفحولة، ومتى قل الانحلال زادت الفحولة، أو على حد التناسب الطردي بين العفة والفحولة، فقياس الطرد فيه ظاهر، وحال المجتمعات الإسلامية على ما فيها من منكرات في هذا الباب بالمقارنة بحال المجتمعات الغربية على ما تقدم شاهد.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير