تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد يقع أيضا للمفرط في الشهوات، ولو كانت مباحة، فإنه يفقد لذة الاستمتاع بها فمن يأكل مرة يتلذذ بطعامه لذة أعظم من لذة من يأكل مرتين، ومن يأكل مرتين يجد من اللذة ما لا يجده من يأكل ثلاث مرات ........... إلخ، وهذا أمر مطرد في كل شهوة مباحة، فالإكثار مظنة قسوة القلب وسأم النفس وبرودة الحس.

ومن عرف النعمة وتصورها ولم يعرف المنعم بها فأنى له أن يشكرها بل لسان حاله: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)، وذلك حال أغلب من ينهمك في تحصيل الأسباب فليتفت عن مقدرها ومودع القوى المؤثرة فيها ومجريها بإذنه الكوني النافذ، فله كمال السلطان عليها أولا وآخرا، وليس لمباشرها إلا التلبس بأسبابها بما ركب الله، عز وجل، فيه من الإرادة والإحساس، ومع ذلك يغفل عن مطالعة مقام الربوبية، فيفنى بالنعمة عن المنعم، وذلك أمر يعم كل متعلق بالأسباب، ولو كانت شرعية، فمن غلا في السبب الشرعي فنظر إلى وجه الحكمة، وجفا في السبب الكوني فغفل عن وجه القدرة: كان قدريا بلسان المقال أو الحال، وفي أسباب الدنيا يظهر الأمر بجلاء، فمسلك قارون الماضى قد غلب على كثير قوارين الحاضر إن صح جمع التكسير فهم له مستحقون!.

ومن عرف النعمة وتصورها وعرف المنعم ولم يقر له بالفضل فهو جاحد من أهل: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)، فذنبه أعظم إذ قد انقطعت حجته بمعرفته لمن أجرى عليه النعمة، فمنكر الرسالة مع علمه بصحتها وقيام الدليل الجازم عنده على ذلك: جاحد مكابر قد استوجب العقوبة لفوات العذر.

ومن عرف النعمة وتصورها وعرف المنعم وأقر له بالفضل ولم يحبه ولم يستعمل النعمة فيما يرضيه فلم يشكرها، فالإيمان: قول وعمل، فمن فاته العمل فاته جزء من الإيمان المستلزم للنجاة، فالعمل شرط لكماله الواجب لدخوله في حده دخول الجزء في الكل، فالإيمان يدل عليه دلالة تضمن الكل لأجزائه.

ومن عرف النعمة وتصورها وعرف المنعم وأقر له بالفضل وأحبه واستعمل النعمة فيما يرضيه: فهو الشاكر حقا إذ استوفى الأركان الأربعة التي ذكرها الإمام، رحمه الله، مرتبة ذلك الترتيب التصاعدي البديع من قمة الكفران إلى قمة الشكران وبينهما من المنازل الرئيسة ما قد ذكر، وبينهما من المراتب الدقيقة ما لا يعلمه إلا الله، فالبشر يتفاوتون فيها تفاوتا ظاهرا، بل أصحاب المرتبة الواحدة يتفاوتون في منازلها تفاوتا لا يحصيه إلا الرب، جل وعلا، المطلع على دخائل الصدور وأسرار القلوب.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فالعبد يبوءُ إلى الله عز وجل بنعمته عليه، ويبوءُ بذنبه، ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه، ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه، بل رجوع من لا يعرض عن ربه بل لا يزال مقبلاً عليه إذا كان لا بد له منه، فهو معبوده وهو مستغاثه، لا صلاح له إلا بعبادته، فإن لم يكن معبوده هلك وفسد، ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته". اهـ

ص118.

فهو رجوع المقر بآلاء الرب، جل وعلا، الشرعية وهي أشرفها لاختصاص المؤمن بها والكونية التي تشترك فيها كل الكائنات، فعنايته، تبارك وتعالى، بقلوب الموحدين قد بلغت الغاية، فهو يتعاهدها بمدد النبوات فيصطفي لهم خير الخلق ليبلغوهم رسالات الرب، فيبسطوا ما قد أجمل في القلوب من آثار مواثيق التوحيد الأولى، فهي مادة الصلاح، ومعدن الفلاح في الدارين، ويقوموا ما اعوج منها بترشيد العاطفة التي تجنح غالبا إلى غلو أو جفاء، فتأتي النبوات بميزان الاعتدال في الحكم على الأفعال والرجال، فهو ميزان دقيق، قد بلغ أعظم درجات الوسطية، فحكمه أعدل حكم لأن منزله أحكم الحاكمين فشرعه صلاح للدنيا والدين، وعنايته، جل وعلا، بالأبدان قد بلغت هي الأخرى الغاية، فخلق لهم ما في الأرض جميعا من الطيبات النافعة، وأباح لهم المآكل والمشارب إلا ما خبث صيانة للأنفس من التلف، وركز فيهم فطرة السكون إلى الزوج حفاظا على النوع، وشرع لهم من المناكح الطيبة ما تحصل به اللذة لأنفسهم والعفة لقلوبهم، فإذا عف الباطن عف الظاهر لزوما، فهو مرآته العاكسة، فتلك آلاؤه، جل وعلا، على عباده، قد عمت الأعيان والأحوال فله عليهم في كل

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير