تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لحظة: نعمة كونية أو شرعية، وله عليهم في كل حال تكليف شرعي، به صلاح قلوبهم فإنها لا تصلح إلا بمباشرة التكليف على جهة التلذذ، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين في معرض نقده قيد "المشقة"، في تعريف التكليف عند الأصوليين بأنه: إلزام ما فيه مشقة. فإن الرب، جل وعلا، لم يرد أن يشق علينا فهو الغنى عنا وعن عبادتنا، فلو كفر أهل الأرض جميعا ما ضره ذلك شيئا، وما استلب من ملكه شيئا، وما انتقص من وصف كماله شيئا، بل غاية الكافر أن يصير محلا قابلا لآثار أوصاف جلاله، تبارك وتعالى، فكماله، عز وجل، ظاهر في كل حال، بوصف جماله إن أطاع المكلف، وبوصف جلاله إن عصاه، وإنما أراد الرب، جل وعلا، أن يلتذ عباده بطاعته في الأولى، وبرضوانه في الآخرة، فالتكليف، وإن لم نباشر ذلك بأذواقنا كما باشره السلف الذين كان الخروج من الصلاة هما يؤرقهم!، فصار أداؤها تكليفا يؤرقنا، فإن عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود، فما ضر الحقيقة أن لم يبصرها الغافل عنها المحروم من مباشرة قلبه لها، فهي حقيقة وإن لم يجد أثرها فذلك مئنة من فساد المحل أو نقصه لا من فساد المباشر أو نقصه، فهو مادة صلاح خالصة من الرب العلي نازلة، فأنى يكون فيها ما يشق على النفوس، وتضيق به الصدور، وإنما قد تعرض المشقة عرضا، فهي غير مرادة شرعا لنص الرب، جل وعلا، على ذلك: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)، فلا يريد شرعا وإن وقع الحرج كونا، فالمشقة قد تعرض كونا عقوبة على فضول سؤال، كما في حديث سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، مرفوعا: "إن أعظم الناس في المسلمين جرما، من سأل عن مسألة لم تحرم، فحرم على المسلمين من أجل مسألته"، ولذلك سكت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يجب السائل عن تكرار فريضة الحج، بل قال: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ"، فالمشقة ليست أصلا في التكليف، وإنما الأصل فيه اللذة، وهو أمر قد يبدو غريبا علينا لأننا لم نتعلم فقه القلوب، بل غايتنا أن تعلمنا فقه الأبدان، فاهتمام المسلم في الأعصار المتأخرة التي قست فيها القلوب، وكثرت فيها الحدود والرسوم، قد انصب على معرفة الحدود والأركان .......... إلخ، على طريقة التقسيم والتشقيق العقلي حتى في ميادين البحث الشرعي فغلبت النزعة العقلية على النفوس، وقل أن يسلم من غلبت عليه من قسوة في القلب، وجفاء في الطبع، فيصير كل تكليف بالنسبة إليه شاقا، لأن معنى التكليف عنده في الشرعيات والعاديات قد استوى فلم يستشعر خصوصية التكليف الشرعي، بل قاسه قياسا مع الفارق على التكليف الدنيوي، وغالبا ما يكون شاقا ملزما بل مجحفا، يتسلط فيه الكبير على الصغير برسم الرياسة!، بخلاف التكليف الشرعي، فإنه، وإن كان ملزما، إلا أن المكلِّف به الشارع له، تبارك وتعالى، ليس كالسلطان أو الرئيس في أمور الدنيا، فالرب، جل وعلا، غني، يغفر ويتجاوز، شكور يعطي على القليل الكثير، فحقه قائم على المسامحة لا التفريط، فلا مشاحة فيه لكمال غناه عن عباده بل هم، كما تقدم مرارا، المفتقرون إليه افتقارا ذاتيا جبليا لا ينفك عنهم من لحظة الميلاد إلى لحظة الممات، بل في دار القرار لا يكون وجودهم وإن كان أزليا في الدارين إلا فرعا عن استبقائه لهم فهو باقون بإبقائه، فأين تكليف من هذا وصفه من تكليف سلطان الدنيا الفقير الشحيح الظلوم الجهول الذي يسعى في إرهاق من تحت ولايته لاستخلاص أكبر نفع بأقل تكلفة لا سيما في البلاد التي يغلب عليها نمط "السخرة" وإن لم يكن المسخر عبدا رقيقا فهو بمنزلته حالا لا مقالا، فضلا عن كثير من المؤسسات الرسمية، لا سيما العسكرية، من جيش وشرطة، التي تمارس استرقاق المنتسبين إليها برسم الطاعة لمن هو أعلى منك رتبة!، وإن أمرك بما يغضب من هو أعلى منك ومنه رتبة، وذلك، كما تقدم، مئنة من فقر العبد، فحقه قائم على المشاحة، بل الظلم والتعدي، فيتعدى في استيفاء حقه، وإن لم يؤد ما

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير