تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وجب عليه، فلا عجب أن يكون تكليفه لغيره شاقا بل معجزا بما لا يطاق أحيانا، ولما تولى البشر أمر البشر بقانون الغاب الأرضي، وعطلوا قانون الوحي السماوي، ظهر من آثار ذلك التكليف المجحف ما صير البشرية في حاجة إلى النبوات، ولا نبوات بعد النبوة الخاتمة، فليس لأهل الأرض إلا الرجوع إلى مقرراتها، فمن فضل الرب، عز وجل، عليهم أن حفظ لهم مقرراتها، فلا يفتقرون إلا إلى من يجدد لهم أعلامها من الأئمة المحققين الذين أولوا العلم بالعمل، فلم تكن علومهم حبيسة الكتب والصدور، لا ينتفع بها إلا في تقرير المسائل النظرية، وإنما انتفع بها من طالعها ولو بعدهم بقرون، ولا يرفع الرب، عز وجل، في هذه الدار إلا ذكر من رفع ذكر النبوة وانتصر لها ونافح عنها فهي معقد ولاء وبراء المخلصين، فكان جزاؤهم من جنس أعمالهم، وكان إخلاصهم سببا رئيسا في بقاء أقوالهم وإن فنيت أبدانهم، وقد حفظ لنا التاريخ من سير أعلام نبلاء هذه الأمة من السلف المقدمين برسم الديانة ما قامت به الحجة على الخلف المقصرين، فلم تكن الوسائل في عصرهم كالوسائل في عصرنا، ولكن السلف حققوا أضعاف ما حقق الخلف، إن صح القول مجازا على قول من يثبت المجاز ومن ينكره!: بأن الخلف قد حققوا شيئا في عصور التقليد والجمود التي غلب عليها: ضعف الهمم وفساد النوايا والأعمال، فمعاني الوحي كانت في أذهان المتقدمين حاضرة، فولدت من أجناس الإرادات الباطنة والأعمال الظاهرة مع ندرة الوسائل ما صيرهم سادة الدنيا برسم الديانة.

والشاهد أنه لا صلاح للعبد قلبا وقالبا إلا بعبادة الرب، جل وعلا، فإن فيها تلبية لداعي الفطرة الملح فلا يسكن ولا يقر إلا بتوحيد الرب، جل وعلا، والتأله له على حد الإفراد، فتتوحد جنده الباطنة والظاهرة، فقواه قد اكتملت، فانتفع بها على أكمل الوجوه، بل ناله من أجناس اللذة المحسوسة، مهوى أفئدة المتعجلين إلى قطف ثمار السعادة، ما لم ينله أسرى شهوات البدن الذين لما تحرر قلوبهم من قيد أبدانهم بعد!.

فإن أعرض عن معبوده، جل وعلا، فسد حاله بفساد معقوله وتشتت جند قلبه، فالتصور فاسد، والإرادة باطلة، والجوارح عن الفضائل معطلة، ولا يكون خروج من هذا الضيق إلى سعة الدنيا والدين إلا بإعانة الرب، جل وعلا، للمكلف، فإن شاء أمده فضلا، وإن شاء حجبه عدلا.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 01 - 2010, 09:33 ص]ـ

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وفي الحديث: "مثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْفَرَسِ فِى آخِيَتِهِ يَجُولُ ثُمَّ يَرْجَعُ إِلَى آخِيَتِهِ، كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَجُولُ ثُمَّ يَرْجَعُ إِلَى الإِيْمَانِ".

فقوله: "أبوءُ" يتضمن أني وإن جلت كما يجول الفرس- إما بالذنب وإما بالتقصير فى الشكر- فإنى راجع منيب أوّاب إليك، رجوع من لا غنى له عنك". اهـ

ص118.

فهو مقصر لا محالة، إن لم يكن بالمعصية، فبالتقصير في شكر النعمة، على وزان ما تقدم من تأويل المحققين من أهل العلم لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ"، ودعاء الصديق رضي الله عنه: "اللهمّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مَغْفِرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم"، فإما أن يكون عاصيا فذلك تقصير ظاهر، وإما أن يكون مقصرا بالكف عن المعصية دون التلبس بضدها من شكر النعمة بالطاعة، فاشتغل بمباح لذاته بلا نية تصيره محلا قابلا للثواب بغيره، فإن للوسائل أحكام المقاصد فلو صيره مرقى إلى طاعة فهو طاعة، ولو صيره مرقى إلى معصية فهو معصية، فيبعد أن توجد نفس خلو من الإرادة إلا حال الموت أو النوم، بل إنها حال النوم متحركة مريدة لما بعده فلا ينام الإنسان إلا إرادة الصيانة لبدنه لينهض إلى مباشرة فعل وجودي ليس بكف عدمي، فالكف، وإن كان فعلا اصطلاحا فله وجود من هذا الوجه يتعلق به التكليف كمن يترك المعصية ديانة لا طبعا فإنه يصير أهلا الثواب بذلك، إلا أنه في حقيقته في عالم الشهادة: عدم، فهو قطع لمادة الشر، وذلك أمر مراد شرعا في حد ذاته، بل هو مقدم من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير