تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وجه، إذ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، إلا أنه ليس المراد الأول من وجه آخر، إذ ترك جنس الطاعات أعظم خطرا من فعل جنس المحرمات، كما قرر ذلك بعض المحققين كابن القيم رحمه الله، فالذي يطيع ويعصي، خير ممن لا يعصي ولا يطيع، أو هو مقصر في باب الطاعة، فالأول قد سبقه في الطاعة، وهو من وجه آخر قد رجح بتركه المعصية، فقد يرجح ميزان الأول عموما فتكون طاعته قد زادت على معصيته فأذهبت شؤمها وثقلت الميزان فرجح، فيكون ميزانه أثقل من ميزان من لم يتلبس بمعصية فذلك كف عدمي، لا يتعلق به الثواب تعلقه بالفعل الوجودي، وهو قد قصر في باب الطاعة، فخف ميزانه من هذا الوجه، بل ربما ناله الذم، إن قصر في طاعة واجبة فلا يكون الكف عن المعصية كفارة لها، بخلاف الطاعة فإنها تكفر المعصية، كما في حديث المكفرات: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ"، فتلك أفعال وجودية لا تروك عدمية، والكفارة لا تكون إلا بفعل وجودي، فذلك وجه تقدم الفعل على الكف، إذ الخير في الفعل نفسه من وجه، وفي إذهاب أثر معصية أخرى من وجه آخر، كالذي يصلي وقد تلبس بمعصية فإن صلاته تدافع المعصية، وقد أقيم هذا العالم المشهود على سنة التدافع بين الأسباب الكونية وأنزلت الكتب بسنة التدافع بين الأسباب الشرعية فقدر الطاعة يزيل أثر المعصية، فقد ترجح عليها فهي خير في نفسها يجبر الكسر، بل قد تزيد على ذلك فيتعدى أثرها إلى إزالة شؤم المعصية، فتكون سببا في الإقلاع والتوبة حياء من الرب، جل وعلا، أن يرى العبد ساجدا له، ثم هو بعد فراغه من الانطراح بين يديه قد بارزه بالمعصية، فمن بركة الطاعة أن تولد في نفس فاعلها حياء من الرب، جل وعلا، وشحا أن يضيع أثرها النافع الدافع إلى طاعة أخرى تزيد المحل زكاء، فمن يفرط في كسب يومه الدنيوي، فلا يصرفه في محاله، أو يدخره لمستقبل أيامه، أو يستعمله لاستدرار ربح أكبر، من يفرط في ذلك الربح إلا سفيه ناقص العقل مخذول بسوء تدبيره إذ وكله الرب، جل وعلا، إلى نفسه، فالتفريط في كسب يومه الديني أعظم، فهو علامة خذلان أكبر، إذ قد أصاب المحل عطب منعه من الانتفاع بأثر ذلك الغذاء النافع فلم يقو على هضمه لضعف قوى القلب:

العلمية فلم يستحضر مقام المراقبة في بقية شأنه.

والعملية فإرادته قد ضعفت فلم ترق به إلى مقام الصبر عن المعصية، وذلك نوع رفيع القدر من جنس الصبر تعجز عنه نفوس كثيرة لا سيما في لحظات الغفلة التي يحسن الشيطان استغلالها، فيوقع العبد في المعصية فذلك تأويل المقدور الكوني في عالم الشهادة، فإن باشر العبد السبب الشرعي الرافع زال الأثر والتئم الجرح على صلاح، وإن استرسل مع داعي النفس ووسواس الشيطان اتسعت الجراحة فصعب التئامها، وفي الأعصار التي ضعف فيها خلق العفة، وتكاثرت فيها الشهوات المحرمة، فتزينت وعرضت على القلوب عرض الحصير عودا عودا، بمقتضى سنة الابتلاء والتمحيص استخراجا لمواد القلوب ودخائل النفوس طيبها وخبيثها، في تلك الأعصار تصير المسألة أعوص والأجر أعظم، فمن صبر على مرارة الصبر ابتداء ناله من حلاوة الرضا ما يذهب أثر الدواء المر، ولا يكون ذلك إلا بتوفيق الرب، جل وعلا، وإعانته، وذلك قدر زائد على الاستطاعة الشرعية التي يتعلق بها التكليف، فهو داخل في حد الاستطاعة الكونية التي يكون بها التوفيق والتسديد إلى مباشرة مراضي الرب، جل وعلا، فعلا، ومساخطه تركا، فلا يمكن للعبد أن يستقل بإرادته في هذا الباب خصوصا، وفي كل أبواب الطاعة بل الحياة عموما، فإن شأنه قد أبرم وانتهى الأمر، فتعلق مصيره بكلمات كونيات نافذة لا محالة، وإنما يجري العبد على وفاقها بمباشرة ما يسر له من الأسباب، فلا غنى له عن ربه، جل وعلا، طرفة عين، ولا حول ولا قوة له على التحول من حال إلى حال إلا به، فإن أظهر الاستغناء، ولو في أمر الدين، فهو على خطر عظيم، إذ قد فارق الوصف الذي به صلاحه من تمام الافتقار إلى الغني، تبارك وتعالى، فنازعه وصف الغنى، من حيث لا يشعر، ومن نازع الرب، جل وعلا، وصفه فقد تعرض لغضبه، فلا يكون رب إلا غنيا بذاته، ولا يكون عبد إلا فقيرا بذاته إلى ربه، تبارك وتعالى، ليدبر أمره الديني والدنيوي، فتلك ثنائية لا يزيغ عنها إلا هالك. فالرب رب والعبد عبد فلا يصير العبد ربا بالاستغناء عن الأسباب، ولا يصير الرب عبدا بالافتقار إليها، فلكل وصفه الملائم لذاته، فللرب، جل وعلا، من أوصاف الكمال ما يلائم ذاته القدسية، وللعبد المخلوق ما يلائم ذاته الأرضية.

وعلى الجانب الآخر قد تصير الصلاة رسوما لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهي صلاة مجزئة على مقتضى فقه الأبدان مردودة على مقتضى فقه الأرواح، فيسقط التكليف بها ولا يحصل التشريف إلا بما تحدثه في نفس صاحبها من صحة تصور وإرادة تحمله على ملازمة الطاعة كما تقدم.

وأما النوع الثالث من التقصير فهو تقصير المقربين، إن صح التعبير، فهم الذين قاموا بالتكليف بل زادوا عليه، فقام بقلوبهم أثره فأورثهم في الأولى: فقرا هو مادة صلاحهم، وأورثهم في الآخرة دار المقامة فـ: (نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، فهي منتهى سؤلهم ومستقر أمانيهم.

وإذا كانت النفوس كبارا ******* تعبت في مرادها الأجسام

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير