تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

جل وعلا، من الأطوار، مئنة من كمال ربوبية الإيجاد بقلب الأعيان وإفنائها، لتصير النطفة علقة فمضغة فعظاما تكسى باللحم والعصب، وإن الذي أحيى الأبدان لباعثها انتهاء، فذلك جار على حد قياس الأولى فيباشر ماء نشر الأجساد عجب الأذناب فيهيجه بإثارة مكامن الحياة التي أودع الرب، جل وعلا، قوى إنبات العظم واللحم فيها فينشر العباد للقاء ربهم وتوفيتهم أجور أعمالهم. وتلك معان جزئية من معنى اسمه "الحي"، فهو الحي في ذاته له كمال حياة الذات، وكمال أوصاف الأفعال، فحياته أصل كل حياة، فعنها صدرت بقية الحيوات صدور المخلوق من خالقه، فبث في الكون مادة الحياة بكلمته الكونية الخالقة، فخلق من النور والنار، وخلق من الطين ونفخ فيه من الروح اللطيف سر حياة كل حساس متحرك، فتلك من معاني فعل الإحياء المتعدي الذي دل عليه اسمه الحي لزوما فهو حي في ذاته بدلالة تضمن الاسم الكريم الدلالة العلمية على الذات القدسية والدلالة الوصفية على صفة الحياة الذاتية، محي لغيره بدلالة اللزوم فهو خالق الحيوات إيجادا وخالق أسباب صلاحها عناية بحيوات القلوب بأسباب الشرع، وحيوات الأبدان بأسباب الكون.

وعن أعمال المحبين لا تسأل فإنهم في شغل سيدهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا، فلا يملون ولا يكلون، وإن استراحوا فشحذا للهمم الشريفة لتنهض إلى مراضي رب الخليقة، رائدهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يقول: "لقد انتهى عهد النوم يا خديجة"، على كلام في إسناده فلم يذكره إلا صاحب الظلال رحمه الله ورجح مخرج أحاديث وآثار كتابه أنه ليس بحديث أصلا، فلا نوم بعد ورود داعي اليقظة على القلب لينبهه من غفلته ويوقظه من غفوته، ولن يكون ذلك إلا إذا سدد الرب، جل وعلا، وأعان، فكم من مريد قد حجب، وكم من طارق قد رد إذ اطلع الرب، جل وعلا، على قلبه فعلم ما فيه من مادة فساد خفية فلا تصلح تلك القلوب للسجود بين يدي الرب الكريم الغني عن الشركاء فهو: "أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"، وتلك أمور دقيقة ترد على القلب موارد شتى، فيلبس إبليس على فئام من السالكين ليفسد عليهم أمرهم ويقطع عليهم سيرهم في طريق الهجرتين، فإما فساد في العلم أو الإرادة يقطع طريق الهجرة إلى الله، عز وجل، وإما فساد في العمل بتلبس ببدعة على غير هدي الرسالة يقطع طريق هجرة فاعلها إلى صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والله، عز وجل، رحيم يعلم ضعف القلوب بما يرد عليها من عوارض الفساد، كريم يصلح ما أفسده العجب والرياء، شكور يعطي على القليل الكثير، فلو اطلع على مادة صلاح في القلب لثمرها وزكاها بإلهام العبد مباشرة أصول الحسنات النافيات لخبث القلب فيطهر ويصير أهلا لقبول آثار الوحي القدسية.

وفي مقابل ذلك: وشرك إلي صاعد: فذلك جار على حد المقابلة بين السياقين أو الطباق بين ألفاظهما إمعانا في بيان جحود العبد لنعمة الرب، جل وعلا، النازلة بمبارزته بالكفر أو المعصية فـ: "شرك": عام لإضافته إلى الضمير، فيشمل سائر الشرور العظمى أو الصغرى، العلمية أو العملية، القولية أو الفعلية ........ إلخ، وجاءت نسبة الشر إليه على حد نسبة الفعل إلى فاعله فهو فاعله وإن لم يكن خالقه، كما قال بعض القدرية الذين نسبوا الشر إلى العبد خلقا وإيجادا إرادة تنزيه الرب، جل وعلا، فوصفوه بالعجز! كما تقدم مرارا، فالرب، جل وعلا، هو خالق هذا الشر بمشيئته العامة، ولكن صدوره من العبد لم يكن جبرا له ولم يكن رغما عن الرب، جل وعلا، بل فعله باختياره بمشيئة ربه، عز وجل، الذي خلق له إرادته ويسر له أسبابه، ففعله تأويلا للمقدور الأزلي لتظهر حكمة الرب، جل وعلا، في تقديره مع كونه شرا في نفسه استنباطا لخير أعظم باعتبار المآل، فتلك عين الحكمة التي توزن فيها الأمور بميزان العدل فترجح المصلحة العظمى المصلحة الصغرى.

ثم جاء الطباق الثاني: "كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وكم تتبغض إلي بالمعاصي".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير