تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فكم للتكثير فنعم الله، عز وجل، على عباده تترى، فلا زال، على حد الإخبار لا الدعاء، منهلا بجرعاء القلوب والأبدان قطر النعم الربانية، فنعم تتلذذ بها الأرواح من كلمات الوحي الشرعيات الهاديات، ونعم تتلذذ بها الأبدان من المقدورات الكونية من طيب المآكل والمشارب والمناكح ........ إلخ، فهي تأويل كلمات الرب الكونيات النافذات، فيتلقى الملك من الرب، جل وعلا، الأمر الكوني بإنزال مطر أو حبسه، بإنبات زرع أو حرقه ...... إلخ فمرد كل الأحداث الكونية إلى كلمات رب البرية، جل وعلا، فهي علة صدور هذا الكون بأرضه وسمائه، بزرعه ومائه، بحيه وجامده، فعقيبها صدر الكون صدور المسبَّب من سببه، كما تقدم ذلك مرارا، وهو مع ذلك الإنعام المتواتر: غني عن العبد، بل العبد هو المفتقر إليه، ولو أجري هذا القياس على المخلوق لظهر الفارق بين المخلوق والمخلوق، فكيف بمن قاس ذات الرب، جل وعلا، وصفاته على ذوات وصفات عباده، فلك أن تتخيل فقيرا يذهب إلى غني ليطلب منه عطاء ثم هو يعطيه، ثم هو يجحد وينكر بل يسب ويقدح، قماذا يكون رد فعل البشر عموما إلا الطرد وربما الضرب والركل؟!، مع أنهم ليسوا أصحاب العطاء حقيقة بل هم أسباب جرت على أيديها العطايا الربانية فليسوا ملاكها إلا على حد الاستخلاف الشرعي، ومع أن عطاءهم محدود لا يتعدى واحدا أو آحادا أو حتى عشرات أو ألوفا، فكيف بمن يرزق اليوم عالما نحو ثلاثة أرباعه لا يؤمنون به، وإن أثبت كثير منهم وجوده، فليس ذلك كافيا، فإن كل موجود لا بد له من صفات تحده عن غيره، ليتميز عنه، وبذلك التأويل صح قول من قال بإثبات الحد للرب، جل وعلا، فلذاته القدسية وصفاته العلية حدود تتميز بها عن ذوات وصفات البشر، فليس الأمر مجرد إيمان بوجود إلهي مطلق على حد إيمان الفلاسفة على ما اطرد من طريقتهم من إثبات المثل الكلية المجردة خارج الذهن، بل ذلك الوجود الإلهي: أكمل وجود، فهو وجود أولي أزلي كان ولم يكن معه شيء من خلقه الحادث قد اتصف بكمال الذات وكمال الصفات أزلا وأبدا، فلا يعتريه ما يعتري وجود المخلوقات من أعراض النقص، وذلك حد لا يتلقى إلا من وحي النبوات فلا يكون مؤمنا بالله: صفة وذاتا، ربوبية وألوهية في كل شأن خاص أو عام، علمي أو عملي، لا يكون مؤمنا به على ذلك الحد الذي تحصل به النجاة إلا من آمن برسالاته فلم يفرق بينها، بل قد سعى جاهدا في الاستدلال لصحتها، فإذا ثبتت عنده صحتها، وأدلتها من التواتر بمكان لئلا يهلك العباد في أودية الضلال رحمة وعدلا من الرب ذي الجلال والإكرام، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، فإنه قد أراح واستراح فصار سؤاله عن الحكم ليمتثله لا عن العلة ليتفلسف في تخريجها على أصوله العقلية المضطربة التي لا تقاس بها الشرائع لتفاوتها من عقل إلى آخر، فأي العقول أولى بالتحكيم، وأي الأذواق أولى بالتقديم إذ وقع النزاع في شيء من أمر الدنيا أو الدين؟!. فإن علم العلة ازداد يقينا وإن لم يعلمها لم يورثه ذلك شكا واضطرابا كحال من ينقر بحثا عن دقائق المسائل فيصيبه من تلبيس إبليس ما يصيبه فإن التجويزات العقلية التي يلبس بها أصحاب الشبهات لا تنتهي فيمكن، ويحتمل، وافرض ......... إلخ من التخرصات هي عمد القوم في الاستدلال فيبنون عليها صروحا من الدعاوى التي لا مستند لها إلا قياس عقل فاسد، أو وجد ذوق باطل، فتصير الدعاوى حقائق بل أدلة يستدل بها لغيرها فهي أصول براهين يستنتج منها ما بعدها مع أنها في نفسها تفتقر إلى البرهان الشرعي والعقلي، فالأمر لا يعدو كونه مصادرة على المطلوب، والعقل الجمعي الذي تلح عليه أبواق الباطل بشبهاتها قد يتأثر بتكرارها فتصير عنده بمرور الأيام حقائق ومسلمات مع كونها أوهاما لا حقيقة لها، ولذلك كان السلف، رحمهم الله، يتجنبون مجالسة أهل البدع، إلا في مقام المناظرة لمن أجادها فتحصن بالعلم النافع تزكية لعقله والعمل الصالح تزكية لقلبه لئلا يقسو بمباشر مقالات أهل الباطل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير