تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولذلك كان حال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكمل من حال الصديق، رضي الله عنه، يوم بدر، مع أن الناظر إلى حالهما قد يظهر له، بادي الرأي، لقلة في الفهم وفساد في القياس، قد يظهر له من تضرع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومناشدة الصديق، رضي الله عنه، له: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "، أن الصديق كان أكمل حالا أو أثبت جنانا منه!، فلم يتضرع تضرعه، والشائع عند الناس في هذا المقام الاستدلال على ثبات الباطن بسكون الظاهر، وهو استدلال صحيح في غير هذه الحال التي يلزم الأمير أو القائد فيها ما لا يلزم بقية الوزراء أو الجند من التضرع والخضوع، فإن ذلك من آكد الواجبات عليه، فليس تكليف الأمير كتكليف الوزير، وليس تكليف الوزير كتكليف الجندي، فلكل تكليفه فرعا عن ولايته، فمن كانت ولايته عامة لزمه ما لا يلزم أصحاب الولايات الخاصة، ومن كانت ولايته خاصة لزمه من التكليف ما لا يلزم من لا ولاية له، ومن ذاكرة التاريخ، وتاريخ الجزيرة الأندلسية المفقودة تحديدا ذكر الحافظ ابن كثير، رحمه الله، ما وقع للمسلمين من قحط فخرجوا يستسقون وكان قاضي الجماعة آنذاك الإمام صاحب السيرة الزكية والمراتب العلية: منذر بن سعيد البلوطي، رحمه الله، فسأل عن حال الأمير: عبد الرحمن الناصر، رحمه الله، واسطة عقد ملك بني أمية في دورهم الباهر في المغرب بعد زوال دورهم الأول في المشرق، فأخبر بأنه قد باشر من أسباب الخضوع والذل، في موضع يحسن فيه الخشوع والتبذل إظهارا للافتقار إلى الرب، جل وعلا، فذلك أليق بمقام الاستغاثة، فقال بنبرة العالم المدقق والفقيه المسدد: "رحمتم وسقيتم والله، إذا خشع جبار الأرض، رحم جبار السماء" وقد كان لا تخرصا وإنما فراسة مؤمن عالم بسنن الرب، جل وعلا، في خلقه، فمتى ذل المخلوق وانكسر، رحم الجبار وبسط.

والشاهد أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد باشر الواجب المفروض عليه على أتم ما يكون، فكان متضرعا مستغيثا بربه، جل وعلا، مع كمال الأهبة وبذل المقدور من أسباب الظاهر على حد قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، فاحتمل قلبه الشجاع، وهو أشجع قلوب أهل الأرض، واتسع صدره المنشرح للمقامين معا: مقام الثبات ومقام التضرع، بينما اكتفى الصديق، رضي الله عنه، وهو من الشجاعة بمكان، بمقام الثبات فلم يحتمل المحل الواردين، مع الجزم بأن الصديق، رضي الله عنه، كان من سادات المتوكلين، ومباشرته لحروب الردة على ذلك النحو الباهر الذي نقلته إلينا صحف أهل العلم والأثر، خير شاهد على ذلك، ولكن توكله لا يقوى على مضاهاة توكل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لاختلاف المقامين: مقام النبوة، ومقام الصديقية، فكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكمل عملا من الصديق، رضي الله عنه، في ذلك الظرف الحرج الذي تظهر فيه أقدار الرجال، ومقدمهم في ذلك أكملهم خُلُقا وخَلقا، المؤيد بالوحي الخاتم: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولا ينفع في موضع كهذا إطناب فلن يحصل به تمام البيان!، فالسكوت فيه أبلغ من الاسترسال.

وإلى طرف من ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:

"ولما قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويستغيث ويقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذا العصابة لا تعبد اللهم اللهم" جعل أبو بكر يقول له: يا رسول الله هكذا مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك. وهذا يدل على كمال يقين الصديق وثقته بوعد الله وثباته وشجاعته شجاعة إيمانه إيمانية زائدة على الشجاعة الطبيعية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير