تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

معتبرا إلا بموافقة الوحي فحصلت له الفضيلة من هذا الوجه، كما حصلت لعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، لما وافق قضاؤه في بروع بنت واشق قضاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المفوضة، فإن فرح ابن مسعود، رضي الله عنه، لم يكن بصحة حكمه، وإنما كان بموافقته لحكم المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاكتسب قوله كمالا من كمال قول متبوعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو بمنزلة الحسن لغيره الذي يرد عليه سبب الحسن من خارج، بخلاف قول المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه حسن لذاته، فحسنه من نفسه لا يفتقر إلى دليل خارجي، بل هو الدليل الذي يحتج به على بقية الأقوال، فكل يستدل لكلامه بغيره، إلا كلام المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه يستدل به لغيره.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"وقد علمنا بالاضطرار من دينه أن من أطاعه دخل الجنة فلا يحتاج مع ذلك إلى طاعة غيره لا نبي ولا محدث فلم يكن المتبعون لنبوته محتاجين إلى اتباع نبي غيره فضلا عن محدث قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} فقد أكمل الله الدين لأمته على لسانه فلا يحتاجون إلا إلى من يبلغ الدين الكامل لا يحتاجون إلى محدث ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر" فلم يجزم بأن في أمته محدثا كما جزم أنه قد كان في الأمم قبلنا مع أن أمتنا أفضل الأمم وأكمل ممن كان قبلهم وذلك لأن أمتنا مستغنية عن المحدثين كما استغنوا عن نبي يأخذون عنه سوى محمد وما علموه من أمور الأنبياء فبواسطة محمد هو الذي بلغهم ما بلغهم من أمور الأنبياء وما لم يبلغهم إياه من أمور الأنبياء فلا حاجة لأمته به". اهـ

"الصفدية"، (1/ 258_260).

ولا يرد على ذلك ترجيح الوحي لقول عمر، رضي الله عنه، في واقعة أسرى بدر، فإنه ما صار أولى إلا بتأييد الوحي الذي هو خصيصة النبوة الأولى، فالنبوة هي التي زكته، فصارت هي المقدمة من هذا الوجه، فلولاها ما صار لقوله هذا القدر، وقل مثل ذلك في كل قول أو فعل يقره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه لا يكتسب المشروعية بمجرد وقوعه، بل سكوت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنه بوصفه المبلغ عن الشارع، عز وجل، مراده، مع قيام الحاجة إلى بيان حكمه لو كان محظورا أو مكروها، سكوته عنه صلى الله عليه وعل آله وسلم على هذا النحو هو الذي صيره مشروعا، ومن ثم ينظر فيه أشرع على حد الإباحة أم الندب أم الإيجاب، فالندب والإيجاب قدر زائد على مطلق الإذن المستفاد من التقرير، فيفتقران إلى مرجح آخر، وإلا بقي الأمر على حد الإباحة أدنى ما يستفاد من التقرير، على خلاف بين أهل العلم في هذا الباب يطول: فتقرير القول مقدم على تقرير السكوت، وتقرير القول مقدم على تقرير الفعل، فالقول آكد في الاستدلال من الفعل لاحتمال الفعل الاختصاص به صلى الله عليه وعلى آله وسلم دون غيره، وما أقره بحضرته مقدم على ما أقره مما وقع في غيبته، وما أقره بظاهره، وإن أنكره بباطنه، زمن الضعف في مكة، ليس كما أقره زمن القوة في المدينة فلا مانع يمنع من الإنكار الظاهر وتغيير المنكر باليد لتمام ولايته صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دولة المدينة الإسلامية، وإن كان له تمام الولاية من جهة وجوب الانقياد لحكمه في كلا الدارين: دار الحرب المكية ودار المدينة الإسلامية، ولكن المسألة الآن من باب: السياسة الشرعية.

فتحصل مما تقدم أن مقام النبوة الفاضل قد بلغ غاية الكمال العلمي والعملي فلا ينازعه فيهما مقام مفضول ولو كان شريفا كمقام الصديقية والولاية، فلا يكون الصديق المسدد أو الولي المحدث أفضل من النبي أبدا، ولا يقول بذلك إلا من فتح باب الزندقة على مصراعيه كما وقع لكثير من غلاة أهل الطريق والفلاسفة الذين قدحوا بلسان المقال أو الحال في مقام النبوة.

وذلك خلاف بقية المقامات فإنها تقبل التفاضل في أفرادها، وإن لم تقبله في أجناسها، فيكون الفاضل مفضولا في بعض أحواله، وإن كان في جملته مقدما على المفضول.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير