تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والفقه في كلام الحسن، رحمه الله، محمول على الفقه بمعناه الواسع الذي يعم سائر شأن المكلف: علما أو عملا، فليس المراد منه الفقه الاصطلاحي المتأخر بداهة، فقد مر هذا المصطلح بمراحل دلالية اختزلت من معانيه الكلية الجامعة ما صيره علما على فن من الفنون بعينه، بل على جزء منه عند التحقيق:

فكان أولا يعم دقائق الأمور من زهد وحكمة وحسن سياسة للنفس، فضلا عن جملة الأحكام العلمية والعملية على حد سواء فكان حد الفقيه عند أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، كما روى الدارمي، رحمه الله، في سننه: "إِنَّ الْفَقِيهَ حَقَّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِى مَعَاصِى اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَعِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِنَّهُ لاَ خَيْرَ فِى عِبَادَةٍ لاَ عِلْمَ فِيهَا، وَلاَ عِلْمَ لاَ فَهْمَ فِيهِ، وَلاَ قِرَاءَةَ لاَ تَدَبُّرَ فِيهَا". اهـ

فلا فقه مجرد عن العمل، بل العمل تأويل الفقه في عالم الشهادة، فيظهر من آثار العلم النافع سواء أكان أخبارا أم أحكاما، يظهر من آثاره على الجوارح ما تزكوا به، فيصير الباطن والظاهر على حد سواء، وذلك مئنة من صحة الإيمان فلا يتلبس صاحبه برسم ظاهر ليس له مستند من الباطن.

ومنه قول الحسن رحمه الله: "إِنَّمَا الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ فِى الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِى الآخِرَةِ، الْبَصِيرُ بِأَمْرِ دِينِهِ، الْمُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ"

ولعله أراد ذلك الشاب بذلك المعنى فقد صدق ذلك الشاب قوله بالعمل فهو لا ينفك عن شكر واستغفار قد صيره في شغل عمن حوله، فاعتزل على رسم الفقهاء العالمين، فكان منه من صالح العمل ترجمانُ صدق لصحيح العلم.

فالفقيه قد طرق باب قلبه: خبر النبوة، فترك الدنيا لأهلها، وبادر بالرغبة عنها إلى الآخرة، فتوحدت النفس بعد أن كانت أشتاتا، واجتمعت قوى الإرادة بعد طول افتراق، فطلب صاحبها النجاة بتحصيل العلم تبصرا في أمر دينه لئلا يسير في طريق الهجرتين بلا دليل علمي يجنبه بنيات الطريق، ثم شد الرحال، فسار إلى الله، عز وجل، بعمل قد واطأ علمه، فكان شاهد عدل لصدقه.

وسئل سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: مَنْ أَفْقَهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ لِرَبِّهِ.

والتقوى اسم جامع لكل ما يتقي به العبد غضب الرب، جل وعلا، وذلك أمر يعم سائر العلوم والأعمال، تصديقا بالعلم النافع وفعلا للعمل الصالح: ندبا أو إيجابا، وتكذيبا بالباطل وتركا للعمل المكروه: تنزيها أو تحريما، فاستوفى الفقه سائر أحوال المكلف من العلوم الباطنة والأعمال الظاهرة.

وقال مجاهد رحمه الله: إِنَّمَا الْفَقِيهُ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ.

وذلك من الحصر الحقيقي بالنظر إلى الخوف ولوازمه فلا خوف إلا ما حمل صاحبه على تصحيح أول المنازل الإيمانية: بعقد صحيح ونية خالصة، ثم ارتقى إلى منازل السائرين إلى الرب، جل وعلا، من علوم نافعة تولد في القلب إرادات وأعمالا صالحة، فيظهر أثر ذلك لزوما على اللسان الناطق والعضو الفاعل.

وقال أبو حنيفة رحمه الله يحد الفقه بمعناه العام: "هو معرفة النفس ما لها وما عليها". اهـ

فتعرف ما لها إن تابت وأصلحت، وتعرف ما لها من الحقوق الشرعية من نفقة وتركة ..... إلخ، وتعرف ما عليها إن أساءت وبغت، وتعرف ما عليها من التكليف: باطنا كان أو ظاهرا، فهو تعريف جامع لأمور الديانة: فالمعرفة قد عمت كل أحوال المكلف ولا تكون المعرفة: معرفة حتى يقيم صاحبها الدليل العملي على صحتها وإلا كانت كعلوم المتأخرين: صورا وهيئات ظاهرة بلا حقائق باطنة.

ومنه وصف ابن تيمية، رحمه الله، وإن كان متأخرا، لعمر، رضي الله عنه، إذ بعث إلى قدامة بن مظعون، رضي الله عنه، قائلا: "ما أدري أي ذنبيك أعظم استحلالك الرجس أم يأسك من رحمة الله"، وصفه إياه إذ فعل ذلك بقوله: "وهذا من علم أمير المؤمنين وعدله فإن الفقيه كل الفقيه لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله واستحلال المحرمات كفر واليأس من رحمة الله كفر". اهـ

"الاستقامة"، ص440.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير