فالفقيه يحسن سياسة نفسه وسياسة غيره: ترهيبا لتنزجر، وترغيبا لتنفعل، وانفعال النفس: باطن بأجناس العلوم النافعة، وظاهر بأجناس الأعمال الصالحة.
وعلى طريقة أبي حامد، رحمه الله، في البحث عن كوامن النفوس جاء قوله في "الإحياء":
"ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب؛ ويدلك عليه قوله عز وجل: "ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم" وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة؛ فذلك لا يحصل به الإنذار والتخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه كما نشاهد الآن من المتجردين له". اهـ
فأشار، رحمه الله، إلى الفقه بمعناه القرآني الجامع، فلا يقتصر على الفروع، وإن كانت من جملته، بل ما أصاب المتأخرين من قسوة القلب ما أصابهم إلا بالانكباب عليه تأصيلا وتفريعا، وذلك من حفظ أحكام الديانة، فلا يلحقه الذم بداهة، ولا يلحق فاعله بل هو في الأصل محمود ممدوح، ولكنه إن فوت به الغاية مع كونه الوسيلة استحق الذم وإن كانت الوسيلة شريفة في نفسها، إذ قدم المفضول على الفاضل وذلك مئنة من قلة فقهه مع كونه مباشرا لعلم الفقه!.
فذلك فقه الأولين الذي ضاق عند المتأخرين فصار علما على فقه الفروع الأصغر، فعرفه أهل الأصول كما اطرد في كلامهم بأنه: "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية".
ثم أصابت لوثة التقليد والجمود متأخري المذاهب من المقلدين الخلص الذي يحفظون الأقوال دون أن يعرفوا حتى دليل صاحب المذهب عليها، وهو ما ينفي عند التحقيق نسبتهم إلى صاحب المذهب، كما أثر عن أبي حنيفة، رحمه الله، فـ: "لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه". فصيروا الفقه: حفظ الفروع مطلقا!، فصار كل من يحفظ متنا لمذهب من المذاهب المعتمدة في الإفتاء: فقيها، وإن لم يتقن أصول الاستدلال، فلا ملكة عنده لاستنباط أحكام النوازل المستجدة، وهو الأمر الذي تذرع به المستغربون ومن تلاهم من العلمانيين المعاصرين إلى إبطال الشريعة ونسخها بأحكام المتشرعين من طغاة البشر الذين نازعوا الرب، جل وعلا، وصفا من أخص أوصافه، بأقيستهم وأذواقهم الفاسدة.
فذلك أمر قد سرى على هذا المصلح الجليل باختزاله إلى هذا القدر الضئيل من معناه العظيم.
وقبل ذلك اصطلح أهل اللغة على حده بالعلم مطلقا، وهو أمر غير مرضي عند جمع من المحققين، فليس كل علم فقها، فمن العلوم ما هو ضروري يشترك في إدراكه الذكي والبليد، بل الفقه قدر زائد على مطلق العلم الضروري، فهو من جملة العلم النظري الذي يستلزم دقة في الفهم، فحده عند هؤلاء: العلم بدقائق الأمور، أو الفهم الدقيق لها، ويصح إطلاق هذا الوصف بهذا المعنى على جليس الحسن، رحمه الله، فإنه ما اعتزل إلا بعد أن فقه تلك النكتة الدقيقة، فأدرك ما لم يدركه غيره ممن خالط أهل الدنيا ففسد حاله وتفرق جنده فليس دون سرير ملكه حجاب يذبون عنه الشبهات العلمية والشهوات العملية.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 01 - 2010, 09:06 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"فالنعم كلها من نعم الله ومنه وفضله على عبده وهو سبحانه - وإن كان أجود الأجودين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين - فإنه أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، لا يضع الأشياء إلا فى مواضعها اللائقة بها ولا يناقض جوده ورحمته وفضله حكمته وعدله". اهـ
ص119.
فهو تبارك وتعالى، كما تقدم مرارا لا يضع الشيء حيث لا يصلح، وهو أمر اعتنى ابن القيم رحمه الله به تأسيسا وتوكيدا في مواضع عدة في كتابه هذا خصوصا وفي بقية كتبه عموما فإثبات حكمة الرب جل وعلا من أشرف ما يقرره المصنف في الإلهيات ويستدل له بالآيات الشرعيات الصادقة والآيات الكونيات الباهرة وضده من السفه بوضع الشيء في غير محله مما يأنف عقلاء البشر منه، لمخالفته سنن القياس الصريح، فليس الأمر قدرة بلا حكمة، بل ذلك مفض إلى إنكار تعليل أفعال الرب، جل وعلا، بالحكمة، وهذا أمر يندرج تحته من الجزئيات: إنكار التحسين والتقبيح العقلي، فتكون
¥