تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأعيان كلها متماثلة، وإنما استقل بعضها عن بعض بحكم إباحة أو تحريم بتعلق خطاب الشارع، عز وجل، به تعلقا محضا لا أثر فيه للقياس العقلي الصريح الموجب للتفريق بين المتباينات فلا يستوي الحسن والقبيح، وإن كان مجرد التفريق بينهما غير كاف في تقرير الحكم حتى يرد خطاب الشارع فهو العمدة في الحكميات وإنما تظهر الحكمة الربانية في التلاؤم بين حكم الشرع وقياس العقل الصريح، فهي، أيضا، من الثنائيات التي ألح المحققون من أهل العلم عليها فبها تزول كثير من الإشكالات التي ولدت معضلات عورض فيها الوحي بقياس العقل لتوهم التعارض بينهما بادي الرأي.

فالقول بأن الأعيان متماثلة إبطال لحكمة الرب، جل وعلا، في تخصيص كل عين بما يناسب وظيفتها في الكون، فحكمة الرب، جل وعلا، قد اقتضت أن تكون العين أو الفعل على هيئة معينة بها يقع كمال الانتفاع، فلو خرجت عن هذا الوصف ما حصل كمال الانتفاع بها، فظهرت حكمة الرب، جل وعلا، في تخصيص الأعيان ووقوع الأفعال على هيئات وصفات مقدرة، وذلك مرده إلى العلم الأزلي الأول: علم التقدير المؤثر، ولا يكون ذلك إلا علما مفصلا فيعم الكليات والجزئيات بل أدق الدقائق وأخفى المسالك، فيقدر الرب، جل وعلا، هيئات الخلايا من جهة التكوين، وطرائقها الحيوية، مما يقع فيها من تفاعلات دقيقة للهدم والبناء وإنتاج الطاقة ......... إلخ، من جهة التسيير، فالرب، جل وعلا، قد أعطى كل شيء خلقه، ثم هداه إلى مباشرة وظائفه على نحو يحصل به انتظام هذا العالم المشهود، على هذا الكيف المتقن، فلم يخلقه ويتركه عبثا، كما زعم الفلاسفة، منكرو صفات الرب، جل وعلا، الذين ردوا هذا الكون على ما فيه من إبداع صنع وإتقان فعل إلى علة بسيطة لا صفة لها بل محض وجود مطلق عن الأوصاف هو إلى الوهم أقرب منه إلى الحقيقة، فلم يعرفوا لجهلهم بعلوم النبوات صفات الرب، جل وعلا، التي عن معانيها المحكمات قد صدر هذا الخلق المتقن، فلا حكمة يثبتونها بها يكون تقدير الأشياء، ولا كلام يثبتونه به يكون تأويل إرادات الرب، جل وعلا، الكونية، في عالم الشهادة، ولذلك كان أتباع الأنبياء عليهم السلام أعظم الناس حظا في هذا الباب بما أثبتوه من أوصاف العلم والحكمة والخلق والتدبير .......... إلخ، فردوا الأمر إلى علته الصحيحة: كلمات الرب، جل وعلا، الكونية النافذة، فبها، كما تقدم، تقع أفعاله في عالم الشهادة على حد الكمال المطلق فرعا عن كمال صفاته الثبوتية، فلا حظ لمن نفى الصفات في ذلك بداهة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ولو رأى العقلاءُ واحداً منهم قد وضع المسك في الحشوس والأخلية ووضع النجاسات والقاذورات في مواضع الطيب والنظافة لاشتد نكيرهم عليه والقدح في عقله ونسبوه إلى السفه وخلاف الحكمة، وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان والإحسان موضع العقوبة لسفهوه وقدحوا فى عقله، كما قال القائل، (وهو شاعر الدنيا أبو الطيب المتنبي):

ووضع الندى موضع السيف بالعلا مضر ******* كوضع السيف فى موضع الندى". اهـ

ص119.

فتلك من صور عدم الحكمة التي ينكرها جمهمور العقلاء، وبإنكارها يرد بها على نفاة التعليل بالحكمة من الذين ردوا الأمر إلى محض المشيئة، فبطل، كما تقدم، اختصاص كل موضع بما يلائمه، ويرد بذلك، أيضا، على القدرية النفاة الذين زعموا أن الله، عز وجل، قد سوى بين المكلفين في عطاء الهداية، فآتى أبا جهل ما آتى أبا بكر، رضي الله عنه!، وذلك من الفساد بمكان، إذ قاسوا فعل الرب، جل وعلا، على فعل العبد الذي يعدل بالتسوية في العطاء، بل إن ذلك ليس جار حتى على قياس البشر، إذ يختلف العطاء باختلاف الأشخاص والأحوال، ففي الميراث: لا يسوى بين الورثة لمجرد اشتراكهم في العصبة بل لكل نصيبه، تبعا لدرجة قرابته، فالتسوية بينهم جميعا في الإرث بحجة أن ذلك من العدل: تسوية بين مختلفين يلزم منها نقيض ما فروا منه بهذه التسوية: من الظلم، فكذلك عطاء الأديان فإنه يتفاوت من مكلف إلى آخر، فبعض النفوس علوية تقبل آثار الوحي، وبعضها سفلية لا تقبلها، فلو أعطيت منها نصيبا ما انتفعت به، وذلك ضد الحكمة التي يلزم منها حصول النفع والمصلحة، فالحكيم لا يضع الشيء إلا حيث يكون الانتفاع به ولو آجلا، فبوضع مادة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير