تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الخير في الصديق، رضي الله عنه، حصل من النفع ما قد علم، وبوضع مادة الشر في أبي جهل استخرج من عبوديات الصبر على أذاه، والجهاد له حتى قتل في بدر، وظهور آثار أسماء وأوصاف الرب، جل وعلا، فيه من: الصبر والانتقام والمكر والاستدراج، وعليه يقاس كل جبار أو طاغوت يمكن له الرب، جل وعلا، ابتلاء لعباده بتمحيصهم وفتنة له في نفسه باستدراجه بكمال السلطان الظاهر، وكلها مصالح قد تغيب عن الأذهان لا سيما في أزمنة الابتلاء والشدائد، فلا يسوي الرب، جل وعلا، لكمال حكمته بين الصديق والزنديق، بل لكل عطاؤه الذي يلائمه فرعا عن حكمة المعطي جل وعلا.

ولو سلم بالتساوي في العطاء فهو عطاء: البيان والإرشاد، فالحجة الرسالية قد قامت على كليهما، لا عطاء: التوفيق والإلهام إلى التصديق والامتثال، فليس ذلك إلا للمؤمن المسدد، فييسر الرب، جل وعلا، كلاً إلى ما قد قدر له أزلا فرعا عن صلاح محله أو فساده.

وإلى تفاوت الأرواح والقلوب أشار ابن القيم، رحمه الله، بقوله:

"ومن المعلوم أيضاً أن الأرواح منها الخبيث الذى لا أخبث منه، ومنها الطيب، وبين ذلك، وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكي، والقلب الخسيس الخبيث، وهو سبحانه خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار والبرد والحر والداء والدواء والعلو والسفل وهو أعلم بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التى تصلح لاستقرار هذه النعم فيها، وإيداعها عندها، ويزكو بذرها فيها، فيكون تخصيصه لها بهذه النعم كتخصيص الأرض الطيبة القابلة للبذر بالبذر، فليس من الحكمة أن يبذر البذر فى الصخور والرمال والسباخ، وفاعل ذلك غير حكيم فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة في المحال التي هي أخبث المحال ". اهـ

ص120.

فالأرواح كالأرضين منها: الطيبة الخصبة، ومنها الخبيثة السبخة التي لا تنبت كلأ ولا تحفظ قطرا، فمن كانت روحه طيبة فالحكمة تقتضي بذر الإيمان في قلبه فضلا وامتنانا من الرب، جل وعلا، فالأرض قابلة لمادة الخير لخصوبتها بما أودع الرب فيها جل وعلا من المخصبات الإيمانية والعناصر الداخلة في تمثيل القلب لأغذية الإيمان فينتج عنه طاقة إيمانية يستعملها القلب في توليد الإرادات الشريفة التي تظهر آثارها على الألسنة ذكرا، والجوارح فعلا. ومن كانت روحه خبيثة، فالحكمة قاضية بحجب مادة الخير عنها إذ لا تنمو النبتة الإيمانية في أرض شديدة الملوحة بما تراكم فيها من العناصر الثقيلة التي أفسدت الأرض فلم تعد صالحة لزرع أو حتى لإمساك قطر لتلوثها في نفسها، فقد صار الخبث عرضا ملازما لها، فلا تطهر إلا إن كان الرب، جل وعلا، قد قضى لها بالتطهير بورود عناصر الإيمان المطهرة التي تنفي خبث القلوب، فإن لم يكن ذلك قد قدر لها، فإن إنبات شجرة الإيمان فيها أمر يخالف قياس العقل الصريح، فلا تنمو ابتداء، ولو فرض ذلك ما انتُفِع بها فهي شجرة فاسدة الأصل، وللفرع حكم أصله، فمادة الخير مقطوعة من هذه الأرض، لو سلم جدلا بإمكان قبولها آثار الوحي الشرعي، إذ الطبع الكوني قد حال بينها وبين الانتفاع بها، وكم من قلوب عرفت الحق بل وحفظته ووعته، ثم لم تنتفع به، ففتنت في نفسها وفتنت غيرها، ولا أدل على ذلك من صنفين من البشر:

صنف تعلم العلم ليقال هو عالم أو ليكتسب به وجاهة مادية أو معنوية فلم يحرر أول المنازل قبل سير في طريق الهجرة، فسلك بذلك الأصل الفاسد: أوعر المسالك، مع علمه بالطريق الصحيح، ولكنه قد حفظ معالمه ووعى مداخله ومخارجه، ولم يوقف مع ذلك إلى سلوكه، فالتوفيق قدر زائد يمتن به الرب، جل وعلا، على من شاء من عباده، فذلك جار على حد ما تقدم من هداية التوفيق الزائدة التي يؤتاها المسددون المخلصون الذي حرروا النوايا فجردوها من حظوظ النفس، وذلك أصعب شيء على النفوس وإن كان أسهل شيء على الألسنة فلا بد من: تحرير النية فذلك متعلق الباطن وتصحيح العمل فيكون موافقا لما قررته النبوة فذلك متعلق الظاهر، فصلاح الباطن وتجرده من الحظوظ والأهواء لازمه صلاح الظاهر بأجناس الأقوال النافعة والأعمال الصالحة.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير