تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالحكمة قاضية بأن لا يسوى بين الشريف الذي يليق بالملك مجالسته والوضيع الذي لا يصلح مثله لمجالسة الملوك، بل هو بمجالسة الصعاليك أجدر، فكل يقع على شكله، فلا بد من سمو نفوس مجالسي أصحاب الرتب العلية، ولله المثل الأعلى، ولذلك لا يسكن الجنان إلا أقوام قد طهرت بواطنهم وظواهرهم فمن طهر ابتداء دخل ابتداء، ومن لم يطهر بموانع نفاذ الوعيد دخل كير التطهير إن كان من أهل التوحيد المخلطين، فطهر بلهيب نار عصاة الموحدين، فإذا خلصت مادته من الخبث، ونصحت نفسه من شوائب التخليط، صار أهلا لمجاورة رب العزة والجلال، فلا يجاوره إلا من وصفه الذهب الخالص، فلما أدخل أحمد، رحمه الله، كير الابتلاء في المحنة، خرج ذهبا سبيكا أحمر، فهو القدوة لمن جاء بعده، ولا يكون إماما في هذا الشأن إلا من رفع الله، عز وجل، قدره، فزكى نفسه، واصطفاه بكلماته الكونية فـ: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)، فيخلق بقدرته ويختار بحكمته، فلا يختار لقربه السفهاء، فلا يليق بجواره إلا النبلاء، وسير أعلامهم شاهدة بتقدمهم في الدنيا برسم الولاية وفي الآخرة برسم: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)، فأمروا في معرض التكريم إذ كانوا في الدنيا على ثغور الطاعة مرابطين، وفي سماء الملة حرسا شديدا وشهبا يحرق بناره شبه المغرضين، فجمعوا العلم والعمل. و: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، فقس عليها: الله أعلم حيث يجعل ولايته فلا يستوي أحمد بن حنبل، وأحمد بن أبي دؤاد، وإن اشتركا في الاسم، فقد حصل الفصل فخرج أحمد بن أبي دؤاد من حد الإمامة ودخل أحمد بن حنبل، رحمه الله، فهو الإمام حقا وشيخ الإسلام صدقا.

وتلمس أوجه الحكمة في قدره الشرعي بسن الأحكام التي تلائم عموم الأحوال، وقدره الكوني بإجراء المقادير على وجه يحصل به تمام الانتفاع للخلق، وتظهر به آثار حكمة الرب، جل وعلا، تلمس تلك الأوجه من خير الزاد الذي يتموله السالك في طريق الهجرتين إلى الله، عز وجل، تألها، وإلى رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم طاعة، وهو زاد مريء لا تقوى على هضمه إلا النفوس الصحيحات. فغالب النفوس لا تقدر على هضمه لقصور آلاتها لا لفساد فيه أو نقص، فهو أصلح الأغذية للنفوس، وأكملها نفعا، وما ضر الحال النافع أن المحل فاسد لا يقبل آثاره الطيبات.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فما الظن بمجاوري الملك الأعظم مالك الملوك فى داره وتمتعهم برؤية وجهه وسماع كلامه ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم، أفيليق بذلك الرفيق الأعلى والمحل الأسنى والدرجات العلى روح سفلية أرضية قد أخلدت إلى الأرض وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما تشاركها فيه بل قد تزيد على الحيوان البهيم وقصرت همتها عليه وأقبلت بكليتها عليه لا ترى نعيماً ولا لذة ولا سروراً إلا ما وافق طباعها من كل مأكل ومشرب ومنكح من أين كان وكيف اتفق، فالفرق بينها وبين الحمير والكلاب والبقر بانتصاب القامة ونطق اللسان والأكل باليد، وإلا فالقلب والطبع على شاكلة قلوب هذه الحيوانات وطباعها، وربما كانت طباع الحيوانات خيراً من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير ولهذا جعلهم الله سبحانه شر الدواب فقال تعالى: {إِنّ شَرّ الدّوَابّ عِندَ اللّهِ الصّمّ الْبُكْمُ الّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّواْ وّهُمْ مّعْرِضُونَ} [الأنفال: 22 - 23] ". اهـ

ص127.

فذلك من قياس الأولى الجائز بل الواجب في حقه، عز وجل، فمقام ملك الملوك أعظم بداهة من مقام أعظم ملوك الدنيا، فإذا كان ملك الدنيا يصطفي جلساءه فهم عنوان مملكته، فكيف بملك الملوك أيصطفي أرواحا سفلية لجواره فيضع مادة صلاح الدنيا والآخرة من الوحي النازل في محال خسيسة، همم أصحابها لا تتعدى همم البهائم، بل البهائهم أصح طريقة، فهي خاضعة للأمر الكوني مسبحة بلسان أعجمي لا تدركه أسماع البشر ويدركه سمع رب البشر، جل وعلا، الذي أحاط بالمسموعات إدراكا وكنها، فيدرك المباني ويعلم المعاني، فلا يصطفي الرب، جل وعلا، لجواره في دار الرضوان إلا النبلاء، ولا يبعد عن جواره إلا السفهاء الذين ضل

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير