تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فليس عندهم من التصور العلمي ما يصحح إراداتهم، فهم كبقية الخلق الحساس المتحرك أصحاب إرادات فاعلة تتحرك باستمرار طلبا للسعادة ودفعا للهم، فذلك جهاد الطلب للمحبوب، وجهاد الدفع للمكروه، ولكنهم لم يلجئوا إلى النبوات لجوء المفتقر، بل استغنوا يقياسهم وذوقهم فظنوا كمال الاهتداء في اتباع وساوسهما، فلم يزدهم ذلك إلا مرضا، فشفاء وساوس العقول والأذواق لا يكون إلا بسلوك طريق الأنبياء عليهم السلام.

ويواصل ابن القيم، رحمه الله، بيان ذلك الفرقان الذي اعتنى به التنزيل فصيره أصلا من أصول الاستدلال العقلي، فلا يسوي العقل الصريح بين متباينين دل الشرع والحس على التفريق بينهما، ولا يفرق بين متماثلين، فكذلك الحال هنا، فلا يسوي الرب، جل وعلا، بين الصادق والكاذب، والمقر والجاحد، فذلك نقض لقياس العقل الصريح الذي جاء الوحي بتقريره، فلم يعهد في شريعة من الشرائع ما عهد في الشريعة الخاتمة من موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، فيقول رحمه الله:

"فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق وبين شر البرية وشر الدواب فى دار واحدة يكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب؟ قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36]، فأَنكر عليهم الحكم بهذا وأخرجه مخرج الإنكار لا مخرج الإخبار لينبه العقول على هذا مما تحيله الفطر وتأْباه العقول السليمة، وقال تعالى: {لاَ يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ} [الحشر: 20]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ} [ص: 28]، وقال تعالى: {قَلْ هَلْ يَسْتَوَى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] ". اهـ

ص127.

بل ذلك، كما تقدم مرارا، أمر ظاهر في عالم الشهادة فالمقادير الكونية تتفاوت بتفاوت الأعيان والأحوال، فكل ميسر لما خلق له، فلو وضع في غير محله لفسد وعدم الانتفاع به، فقدم الإنسان قد غلظ جلدها لتلائم وظيفة المشي، وعينه قد رق خلقها لتناسب وظيفة النظر، فلو وضع هذا مكان هذا لحصل التفاوت المذموم، فوقع من ذلك فساد عريض، تأباه حكمة آحاد البشر، فكيف بحكمة رب البشر، أحكم الحاكمين وخير الفاصلين.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"بل الواحد من الخلق لا تستوى أعاليه وأسافله، فلا يستوى عقبه وعينه، ولا رأسه ورجلاه، ولا يصلح أحدهما لما يصلح له الآخر فالله عز وجل قد خلق الخبيث والطيب والسهل والحزن والضار والنافع، وهذه أجزاء الأرض: منها ما يصلح جلاءً للعين ومنها ما يصلح للأتون والنار". اهـ

ص127.

فيشير، رحمه الله، إلى معنى لطيف سبق التنويه به، وهو كمال القدرة الإيجادية والحكمة التدبيرية، وذلك ما يظهر في خلقه للأضداد، فذلك مئنة من القدرة، على نحو ينتظم به أمر الكون، فذلك مئنة من الحكمة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وبهذا ونحوه يعرف كمال القدرة وكمال الحكمة: فكمال القدرة بخلق الأضداد. وكمال الحكمة تنزيلها منازلها ووضع كل منها فى موضعه والعالم من لا يلقي الحرب بين قدرة الله وحكمته - فإن آمن بالقدرة قدح فى الحكمة وعطلها وإن آمن بالحكمة قدح فى القدرة ونقصها - بل يربط القدرة بالحكمة، ويعلم شمولها لجميع ما خلقه الله ويخلقه، فكما أنه لا يكون إلا بقدرته ومشيئته فكذلك لا يكون إلا بحكمته. وإذا كان لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة بهذا تفصيلاً، فيكفيها الإيمان بما تعلم وتشاهد منه، ثم تستدل على الغائب بالشاهد وتعتبر ما علمت بما لم تعلم". اهـ

ص128.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[05 - 02 - 2010, 08:02 ص]ـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير